في قرية وادي الرطل الواقعة بين الهرمل وسهل مرجحين، تقف أطلال البيت الذي ولد فيه الأديب جبران خليل جبران عام 1883 وعاش بين جدرانه سنواته الأولى قبل أن ينتقل إلى بشري غير البعيدة عن هذه المنطقة الجردية. ومن يجُل في أرجاء الهرمل ومنطقتها المنتشرة على مساحات شاسعة، تطالعه حارات من البيوت التراثية، تشبه بيت جبران، تتناثر بتواضع مثل قطعان غنم أو أسراب بجع، هنا وهناك. وثمة جاذبية خاصة لهذه البيوت، لما تتمتع به من سحر لوني مصبوغ بنكهة التراب، وتقطيع بنائي يشير إلى حقبة عمرانية انتشرت في المنطقة منذ ما يزيد على 150 عاماً.
من المؤكد أن هذه البنية المعمارية متوارثة عن خبرة في البناء في الهرمل عمرها مئات السنين. فهذه البيوت التراثية مستطيلة الشكل، تتميز ببساطتها وتواضعها، ولا تتعدى الغرف الثلاث التي تتمحور حول غرفة الوالدين. وتمثّل أشجار المنطقة الحرجية والصلبة، كالسنديان واللزاب، العمود الفقري لبناء هذه البيوت، فجدرانها ترتفع بين الأشجار أو تتكئ على جذوعها. وبالطبع يبقى القرب من المراعي ومنابع المياه من العوامل الأساسية لتحديد مكان المسكن. والسؤال البسيط الذي يطرح نفسه هو: لماذا بقيت هذه الجدران منتصبة رغم السنين؟ لأن ثمة تماسكاً حميماً متوحداً بين الجدار الداخلي والخارجي المتكون من حجارة مقطعة، غوغائية صغيرة، تصوب جهتها الملساء نحو الخارج، تلتقطها من الداخل عجينة الطين المكونة من تراب وماء وتبن، وتغذى في الوسط (حيث مجبول الطين) بحجارة صغيرة أقرب إلى الحصى، لتزيد في تماسكها.
هذه الهندسة تميز بيوت مدينة الهرمل وجوارها. بيوت الجوار هي بيوت المزارعين والرعيان التي يقتصر دورها على المبيت الليلي أو أن تكون الحضن الدافئ شتاءً. أما بيوت المدينة فيزيد عدد غرفها على ثلاث غرف، وتتميز بـ«ديكور» داخلي يجعلها تبدو أكثر يسراً. ففي زوايا الغرف هناك «الداخون» المصنوع من الطين، وقد زينت واجهته على نحو فني متقن، وبين الجدران شُيّدت «الكواير» المعدة للتخزين، على شكل خزائن، أو على شكل «خوابٍ» لتخزين الحبوب.
هذه البيوت باتت اليوم مهددة. كثيرون من أصحابها، ولا سيما داخل الهرمل، يلجأون إلى هدمها والاستعاضة عنها ببيوت من الأسمنت الخالص. تحاول البلدية جاهدة منع القضاء على هذه النماذج المعمارية، لكن «العين بصيرة واليد قصيرة»، يقول رئيس البلدية صبحي صقر، الذي يؤكد أنه «لا قانون يمنع هدم هذه البيوت، لأنها غير مصنفة على لائحة الجرد العام، ولا قدرة للبلدية وحدها على ترميمها أو حتى على شراء بعضها».
والمحزن أن نجاح مشروع قرية الكواخ (قضاء الهرمل) لم يتكرر في بقية القرى، ربما لأن القيّمين يأملون أن تقوم الجمعيات الأهلية بالمبادرة بدل أن يكرروها. في الكواخ قامت جمعية «ARCS» الإيطالية وجمعية «مدى» اللبنانية (بتمويل من السفارة الإيطالية واتحاد بلديات الهرمل) بترميم بعض البيوت الترابية على سلسلة جبال لبنان الشرقية وتأهيلها بهدف استثمارها في مشاريع سياحية وبيئية. ورغم ما شاب هذه العملية من نواقص أو خلل في طريقة الترميم، إلا أن هذه البيوت عادت تستقبل بين حناياها التقليدية القديمة العديد من السياح لتقدم إليهم خدمات «قروية» مختلفة، جعلت أصحابها (معظمهم من النسوة) يستفيدون مادياً ويدركون أهمية وجودها ويسعون إلى المحافظة عليها.
والمشروع لاقى رواجاً كبيراً في المنطقة، وبات اليوم من النقاط المهمة في السياحة البيئية على صعيد الوطن، ولكنه لم يكن حافزاً لأهالي المنطقة على تكرار التجربة خوفاً من فشلها، فتبقى «الهمة» على مسؤولية الدولة. ويتمنى صقر على وزارتي السياحة والثقافة أن توليا «البيوت التقليدية في الهرمل والجوار الاهتمام اللائق الذي يصبّ في خدمة الحفاظ على ديمومتها لما تحتويه من إرث لاستثمارها سياحياً».

بيوت مقاومة للتغير المناخي



يُعَدّ التغير المناخي الذي يعرفه العالم اليوم من أكثر التحديات التي يعيشها المهندسون لناحية تشييد بيوت مقاومة لتغير الطقس وغير مكلفة. وتلك هي ميزة بيوت الهرمل الترابية المتواضعة في شكلها والغنية بخبرة عمرها مئات السنين في هندسة جدرانها. كل شبر منها شيد بحسب خبرة الأقدمين المتوارثة. فالبيوت تنتشر في جرود الهرمل على ارتفاع يتجاوز 1500 متر عن سطح البحر. جدرانها مبنية من الحجر الصخري، وسقوفها المبنية من الطين وجذوع الأشجار تبدو من الخارج هرمية الشكل. أما السقف فمن «الكِبكاب»، وهو نبات منتشر في جرود الهرمل يشبه البلان الشوكي، وله خاصية مميزة تتمثّل في عزل الحرارة المنخفضة شتاءً، والمرتفعة صيفاً، ويمنع تسرب مياه الأمطار أو ذوبان الثلوج إلى الداخل. وقدرته على مقاومة عوامل الطقس الصحراوي في الهرمل حولته إلى عامل أساسي في نجاح بناء البيوت.
شيد كل كوخ من هذه الأكواخ التي لا تتعدى غرفتين وباحة خارجية في ظلال شجرة لزاب يمثّل جذعها دعامة أساسية في بناء الكوخ وحمايته. أما بناة الأكواخ المبنية في الأحراج والجبال بعيداً عن القرى، فهم من الرعيان والمزارعين الذين يقصدون المنطقة في أوقات محددة بحثاً عن قوتهم ومراعي مواشيهم. وقد استطاعت هذه البيوت أن توفّر في داخلها مناخاً دافئاً شتاءً، وبارداً صيفاً، بفضل جدرانها السميكة المتينة، وسقوفها المتراصة، وهذا ما جعلها تعمر طويلاً. لكن بسبب هجرة أبنائها لها للسكن في بيوت أسمنتية، وعدم صيانتها وترميمها وحدل سقوفها قبل مواسم الشتاء، وبسبب إهمال الجهات المعنية من ورثة أو سلطات محلية، تنهار سقوف العديد من تلك البيوت، الأمر الذي يسبب سقوط بعض الجدران، ويهدد بتدمير كلي للعديد من هذه البيوت التي عاصرت أجيالاً. وتجدر الإشارة إلى أن أكواخ الهرمل، على عكس بقية البيوت التراثية، لا تحتاج إلى الكثير لتبقى صامدة. فطريقة بنائها صلبة، إلى درجة أن الترميمات الأساسية كفيلة بإعطائها دعماً لسنين طويلة؛ إذ إن سماكة الجدران تراوح بين خمسين وسبعين سنتيمتراً. وتقطع ارتفاع هذه الجدران، بمسافات متفاوتة، جسور خشبية عريضة تساعد في صمودها، وتساعد في «حمل» ثقل السقف. أما عتبات الشبابيك والأبواب فكلها من الجسور الخشبية، وينتفي وجود العتبات الصخرية الضخمة في هذه البيوت، ربما لندرتها في المنطقة. ويلاحظ أن حجارة مقطعة مستطيلة أكثر حجماً من حجارة الجدران هي التي تتشابك لتلتقط الزوايا أو منافذ الأبواب والشبابيك. وسعياً إلى إطالة عمر الجدران والحفاظ على جو معتدل يجري تلييسها من الداخل بمادة سميكة من الوحل الأسمر المختلط بالتبن، هي بتركيبتها عازلة للحرارة. فحينما تتعدى الحرارة صيفاً الـ40 درجة مئوية، وتصل في الشتاء إلى ما دون الـ10 درجات، تبقى معتدلة داخل البيوت وتقارب الـ25 درجة، من دون تدفئة أو تبريد.