تشهد وزارة العدل وقصوره حركة انتقالية بين السلف ابراهيم نجار والخلف شكيب قرطباوي. وبما أنهما ابنا مهنة المحاماة، مع ما يستتبع ذلك من افتراض معرفة وافية بدهاليز العدلية وأمراضها، فإن ذلك يستدعي نظرة تقويمية لما سبق، لا سيما أن التجربة غير مشجّعة، رغم الآمال التي يُعلّقها كثيرون على الوزير الجديد علّه يملك وصفات حلول.فقد شابت ولاية الوزير نجار، بحسب ما يقول العارفون، «تجاوزات» تفتح الباب واسعاً أمام عدد من التساؤلات حول النهج الذي اتبعه الوزير السابق في سلوكه وفي التعامل مع القضاة، وهل يمضي الوزير الجديد في بعض قرارات سلفه التي أثير غبار كثيف حول عدم قانونيتها؟
في السلوك الشخصي، يأخذ كثيرون من «أهل العدلية» على نجار إبقاءه مكتب المحاماة الخاص به مفتوحاً بعد تسلمه الوزارة رغم أن المادة 15 من قانون تنظيم مهنة المحاماة تفترض أن يُعلّق ممارسته للمهنة طوال فترة ولايته في الوزارة، كما فعل زميله زياد بارود لدى تسلمه منصب وزارة الداخلية. وهو كان يرد على ذلك بأن وكالات المكتب ليست باسمه، إلا أن الواقع يشي بغير ذلك. فقد كان كثيرون يلجأون الى المحامين العاملين في مكتبه، على أساس أنهم من مكتب الوزير، ومن غيرهم سيكون أقدر على تحصيل حقوقهم؟
ومن المآخذ على نجار إصداره «قرارين مخالفين للتوازن الطائفي وللأعراف المتبعة في العدلية» وفق أوساط سياسية مطّلعة على شؤون القضاء، و«بدعٌ لا سابق لها في تاريخ العدلية» بحسب مراجع قضائية. أحد القرارين استحدث منصب نائب رئيس قلم، علماً أن هذا القرار من صلاحية رئيس الدائرة القضائية أو الرئيس الأول الذي كان يكلّف أحدهم الحلول محل رئيس القلم عند غيابه لعذر ما. أما القرار ـــــ المخالفة الثاني فكان تكليفه موظفاً متعاقداً رئاسة أحد الأقلام، مستبقاً بأشهر إحالة الأصيل على التقاعد. هذا في الشكل، أما في الجوهر، فقد سُجل في القرارين استنساب مراكز لثمانية موظفين من لون سياسي واحد (حزب القوات اللبنانية).
وكان نجار قد ردّ في آخر مقابلة أجرتها «الأخبار» معه على الاتهامات التي ساقها البعض بحقه، لناحية تعزيز دور «القوات» في قصور العدل، بالقول: «كنت وفيّاً للجهة التي سمّتني وزيراً في الحكومة، أي القوات اللبنانية، وقد بذلت قصارى جهدي لتشريف وتبييض وجه من شرّفني بتمثيله». لكنه في المقابل، نفى أن يكون قد خرق القانون في أي من القرارات التي أصدرها في هذا الإطار.
في تعامله مع القضاة، يؤخذ على نجار «فرزه» القضاة بين محظيين وأقل حظوة تبعاً للولاء السياسي. وهو أبدى تشدداً في منح أُذونات السفر للقضاة من دون مبرر، غير أن هذا التشدد لم يطل القضاة «المرضي عنهم». فهو منع إحدى القاضيات من السفر بحجة أن سفرها سيعطل عمل محكمتها، لكنه في الوقت نفسه أذن لقاضية أخرى تعمل في المركز نفسه بالسفر من دون اكتراثٍ لسير عمل المحكمة.
ويسجّل على نجار حرصه على قاعدة 6 و6 مكرر حتى في الأماكن التي ليس ملزماً فيها الالتزام بهذه المعادلة الطائفية. فقبل نحو سنة ونصف السنة، أُجريت امتحانات لرؤساء أقلام وكتاب ومباشرين، تقدم اليها الآلاف ونجح نحو 700 شخص في اجتياز الاختبارات. لكن رجحان كفة الناجحين من المسلمين دفع الوزير الى التدخل «حفاظاً على التوازن»، فألغى المباراة من دون مبرر قانوني، رغم أن الدستور لا يفرض التوازن الطائفي في غير مراكز الفئة الأولى. أما الوقت والنفقات والجهود التي بُذلت فلم تؤخذ في حسبان الوزير الذي قرر إجراء مباراة أخرى، تقدم اليها آلاف المرشحين أيضاً. ومع إنجاز اللجنة الفاحصة تصحيح الاختبارات، يدور همس كثير في أروقة العدلية عن قاض وقاضية، يملكان وحدهما مفتاح غرفة في الطبقة الخامسة من الوزارة، يفتحان المسابقات فترة بعد الظهر لأسبابٍ مجهولة. كما يُحكى عن وعود تُقطع بتمرير أسماء، حتى باتت الألسن تتناقل لائحة بأسماء محظيين يقال إنهم سيجتازون الاختبارات بنجاح.
وفي ولاية نجار، حديث كثير عن استفحال الرشوة في صفوف قضاة وموظفي أقلام في العدلية بطريقة فاضحة، من دون أن تُتخذ أي خطوات للحد من هذه الظاهرة، خصوصاً أن وثائق وقعت في أيدي الوزير عن تلقي ابن أحد موظفي الوزارة رشى على اسم أحد القضاة في جبل لبنان.
ورغم تأكيد الوزير نيته فتح تحقيق في القضية، لم يجر تحقيق ولا من يحققون!
أما التشكيلات القضائية، التي عمل كثيرون على إشاعة أصداء إيجابية حولها، فيسجل أنها أطاحت معايير كثيرة، أبرزها معيارا الأقدمية والكفاءة، وبرز فيها في نحو لافت تشكيل وصفه كثيرون بـ«الانتقامي» في حق القاضي جوني القزي. كذلك عُيّن قضاة في مراكز جزائية رغم أنه لم يسبق لهم أن شغلوا حتى منصب بداية أو حكم. السياسة كانت المعيار الأبرز في هذه التشكيلات، فوُضع قريب مدير عام سابق في منصب مدع عام عسكري، فيما عُيّن قاض في منصب حسّاس، رغم أنه مكسور الدرجات لتجاوزات قانونية أقدم عليها.
نقطة أخرى غير مضيئة تسجّل على نجار، إذ انتهت عقود محامي الدولة في عهده، وهي المراكز التي لم تشغر أبداً في عهد أي من وزراء العدل السابقين.
ما من شك في أن القضاء الذي يفترض أنه سلطة مستقلة بحسب نص الدستور كان، وسيبقى حتى إشعار آخر، خاضعاً لتأثير السياسة، بصرف النظر عمن يشغل وزارة العدل.
ويبقى الأمل في أن يعمل وزير «التغيير والاصلاح» على تغيير هذه القاعدة وإصلاحها، فلا يبقى القضاء رهينة أهواء الزعماء والسياسيين، ولا يضطر القضاة الى مواصلة التسكّع على أبواب السياسيين حفاظاً على رؤوسهم.



للذكرى

قد يُنسى اسم الوزير ابراهيم نجار مع الأيام، لكن التاريخ سيذكر أنه الوزير الذي وقّع ثلاثة بروتوكولات تعاون مع المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري. المحكمة التي استباحت من خلال الاتفاقية والبروتوكولات، سيادة لبنان واستقلاله، وجعلت من قضاته سعاة بريد.
وسيذكر التاريخ أيضاً، الحكم القضائي الشهير الذي أصدره القاضي جون القزي في عهده، حيث منح امرأة لبنانية حق نقل جنسيتها إلى أولادها. حكم فريدٌ من نوعه في تاريخ لبنان، نال القزي لأجله جائزة حقوق الإنسان. إلا أن الفرحة لم تكتمل، فقد استؤنف الحكم وأُسقط قضائياً. أكثر من ذلك، ففي ظل ولاية نجّار أيضاً، أحيل القزي على هيئة التفتيش القضائي وعوقب ليُنقل من المكان المعيّن فيه. ويُسجّل للوزير نجار أنه كان الوزير الأول الذي وقّع على مذكرات الجلب بحق معمّر القذافي ومعاونيه، الذين صدر في حقهم قرار اتهامي أمام المجلس العدلي في قضية تغيبب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، وذلك بعد 33 عاماً على بدء القضية.