تشهد الطريق التي تربط مدينة عاليه بجارتها بسوس ورشة عمل لتوسيعها. هدم محال وغرف من بيوت، برضى أصحابها أمر قلّما يحصل في قرى أخرى، إلا أن رئيس بلدية عاليه وجدي مراد يحكي عن الأمر والابتسامة تغزو وجهه: «كلّه تم بالتوافق والأهالي كانوا راضين، عوّضنا عليهم. السيدة التي هدمنا لها غرفاً في بيتها، أعطيناها رخصة لتبني طبقة ثانية، ومن هُدمت محاله سيبني محال جديدة ويؤجّرها وفق الإيجار الجديد». وبالفعل كانت السيدة واقفة على ما تبقى من شرفة منزلها، لوّحت لمراد ملقية تحية الصباح، فيما كان موظفو البلدية ينظّفون الطريق أمام السيارات المارّة.
يسير هذا المشروع على مهل في عاليه. العام الماضي هدم البيت الملاصق له، اتسعت الطريق وبنيت محال جديدة. كل ذلك يحصل بعيداً عن الشارع الرئيسي بحيث لا يُزعج المدينة التي يستعد أبناؤها، وجيرانها، لموسم الاصطياف. الحركة لا يراها الزوّار، ومن يبحث عن حراك ما فقد لا يجد إلا ما يظهر على السطح: الإعداد لـ«مهرجان القرى العالمي» الذي سيستقبل 12 دولة من العالم مطلع الشهر المقبل. لكن الدخول في التفاصيل يكشف عن نظام مختلف تعيشه هذه المدينة وأبناؤها، مفتاحه لدى رئيس البلدية الذي يملك «رخصاً» بالجملة يقدّمها إلى مئات الشباب الراغبين في الحصول على وظائف موسمية لهذا الصيف. وظيفة تبدأ بالـ«فاليه باركينغ» ولا تنتهي عند بيع البالونات. هناك غسل الصحون، تأجير الدراجات الهوائية، بيع الجوز النيء، الورود، إلخ..
هذه «ورشة» بحدّ ذاتها، يقلق رئيس البلدية بشأنها، كلّهم من طلاب الجامعات وتلاميذ المدارس، ويحرص على أن يكونوا من عاليه وجوارها. لكن تحصل بعض المواقف أحياناً التي تجعله يختار «الغريب». يروي قصة بائع بالونات لجأ إلى الوساطة ليسمح له بالبيع في المدينة وبقي يرفض. وعندما التقاه مرة قال له الرجل «سأبقى ألاحقك وأبحث عن «واسطة» تجعلك تعطيني الرخصة». فكر مراد وقال: «أنا أعطي الرخصة لشبان يخجلون من بيع البالونات ويفضلون غسيل الصحون من دون أن يراهم أحد، وهذا الرجل يريد أن يبيعها وهو سعيد بذلك. سأعطيه إياها».
من المهن الصغيرة إلى الفنادق والمطاعم والمستثمرين الذين وضعوا رؤوس أموال، يتحدّث مراد عن الإنشاءات الجديدة القائمة حالياً «تشهد المدينة إنشاء ثلاثة فنادق جديدة، عدا الفنادق والشقق المفروشة الموجودة فيها أصلاً. وإن كانت الحجوزات لا تزال خفيفة حتى الآن، فإن الأمل لا يزال موجوداً لأن المدارس لم تقفل أبوابها في الخليج ودول الاغتراب بعد». يشرح مراد: «مدينتنا مدينة اصطياف وليست مدينة سياحية، هذه المدينة كبرت كثيراً في السنوات الأخيرة إذ يرتفع عدد المقيمين فيها من 42 ألفاً في فصل الشتاء إلى 125 ألفاً في فصل الصيف، معظمهم من اللبنانيين إضافة إلى العرب. ويعتمد أهالي عاليه على أشهر الصيف بنحو كبير لأنها تعادل ثلاث مرات عملهم خلال فصل الشتاء. وهذا كاف لإنعاشها اقتصادياً».
وما دوركم بصفتكم البلدية في هذا الإطار؟
مبدئياً، نساعد الناس في خياراتها لمشاريعها الاستثمارية، خصوصاً أن البلدية هي من سيمنحهم الرخصة وهم يستمعون إلى النصيحة. لكن لنا أدوار أخرى في جرّ الرجل إلى المدينة أيضاً.
هذا المدخل السياحي يجعلنا نتجاوز السؤال التقليدي الذي يوجّه عادة إلى رؤساء البلديات عن إنجازاتها ومشاريعها، خصوصاً أن مراد يرأس البلدية للمرة الثالثة على التوالي. يقول: «نحن في عاليه تجاوزنا منذ زمن مشاكل البنية التحتية وغيرها وصار همّنا مساعدة الناس صحياً وتربوياً». يوحي الكلام أننا أمام بلدية لا تعاني المشاكل. لكن مراد سيعترف لاحقاً بأنه يعاني من المعوقات التي تعترض عمل كلّ رؤساء البلديات، خصوصاً المتعلقة بالمركزية، وإن كان يفضل ألّا يتوقف عندها أو يجعل منها عائقاً. «ضاع منا عدد من المشاريع المهمة لأنه كان يقال لنا إن هذه المؤسسة مسؤولة عنه، في النهاية قررت أن أعمل ولا ألتفت كثيراً إلى ما يضيع وإلا لما كنت فعلت شيئاً لعاليه». في مضوع الاصطياف، يسأل مثلاً عما قدّمته الدولة لمدينة كعاليه تعتمد على الاصطياف: يقولون للبلديات أظهري قدراتك. طيب، نحن نعمل ونأتي بصداقاتنا من كلّ دول العالم. لكن ماذا يفعلون هم؟ أخبريني عن الطريق التي تصل إلى عاليه؟ وماذا عن الكهرباء؟ في السابق كانت تأتي صيفاً 24 على 24. منذ ثلاث سنوات خضعت البلدة للتقنين. حتى بالنسبة إلى الشرطة البلدية، نرسل لهم طلباً للموافقة على ثمانين شرطياً، فنحصل على موافقة على ثلاثين. هذا عدد غير كاف، نحن نتحايل على القانون لنسيّر أمورنا. في عاليه حالياً خمسون شرطياً يعملون بثلاثة دوامات، وهو عدد غير كاف. هذا طبعاً عدا الوضع السياسي المتأزّم.
رغم هذه الشكاوى التي يسوقها مراد في معرض كلامه، يتصرّف كأن كلّ شيء يسير على ما يرام. استعداداً لهذا الصيف، حصل مراد على رخصة «مهرجان القرى العالمية» الذي يقام في دبي، وقدّم لهم أرض الملعب البلدي مجاناً. ويجري حالياً الاستعداد لاستقبال فرق من نحو ثماني دول، عدا شركات ستشارك من دول أخرى. «أتوقع أن يزورها 40 ألف شخص يومياً، هذا سيكون له مردود كبير على عاليه». لكنه يشكو من مشاكل في حصول عدد من المشاركين على تأشيرات «منهم من لم يستطع الحضور ومنهم من قد لا يصل في الوقت المناسب. يجب أن تكون هناك تسهيلات أكثر في لبنان».
مجدداً، مراد لا يشكو. نحن أمام بلدية مرتاحة مادياً، يضحك رئيسها عندما نسأله عن حصته من الصندوق البلدي المستقل «حصتنا 3 مليارات، يفترض أن يصرفوا لنا الثلث، أي ملياراً، لكنهم يعطوننا 80 مليوناً». إيرادات البلدية من جباياتها تكفيها، رغم وجود 125 موظفاً فيها «لكنهم ليسوا في ملاكها، عندنا شغور بنسبة خمسين في المائة». ولا تبدو إجابته عن سبب عدم إعلان عن وظائف في البلدية مقنعة «من أين سيأتي الموظفون؟ وهل سيكفيهم بدل النقل؟ القانون غير مقنع» يقول.
من عاليه إلى محيطها، نسأل إن كانت فكرة إنشاء اتحاد بلديات عاليه لا تزال قائمة، فيؤكد مراد الأمر «وقد أجمعت البلديات على السير به وتقدّمت بطلبات في هذا الإطار». ويكشف أنه لن يكون رئيس الاتحاد المقبل، بل نائبه لأنه لن يستطيع التفرّغ له. كذلك يعلن أن عاليه لن تستفيد من أي مشروع ينجزه الاتحاد ولن تأخذ منه قرشاً واحداً «نحن بصفتنا بلدية كبيرة سنضع في صندوق الأحد ما يجب علينا، وسنساهم في إنجاز مشاريع تساعد البلديات الصغيرة. هذه واجباتنا». وفي انتظار تأسيس هذا الاتحاد يحكي عن تجمّع بلديات عاليه الذي استطاع الحصول على مساعدات من الاتحاد الأوروبي (سيارات للنفايات الصلبة). «أسسنا التجمّع من تسع بلدات لأنه لا يمكننا الحصول على مساعدات من أجل بلدة واحدة، وجاءت الإعانة الأولى. أخذنا قطعة أرض لنضع فيها النفايات الصلبة: حديد وخشب، تباع وتعود إلى التجمّع». بعد نجاح هذا المشروع انطلق المشروع الثاني لتأسيس حديقة يقام فيها مركز رئيسي للتجمّع بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية، هذه الحديقة ستمتد ضمن حرج للصنوبر يصل عدداً من بلدات عاليه. وفي هذا الإطار يعلن مراد شراء أطفائية للبلدية وصلت منذ أسبوعين تحسباً لفصل الصيف، لافتاً إلى أن عاليه لا تزال تحافظ على ثروتها الحرجية وأن الحرائق كانت تنشب في قرى تتبع لقضائها.