«مرحبا وطن». الكلمتان تخرجان من أفواه اللبنانيين على حواجز الأمن، كما لو أنهما من الطقوس. وتكاد العبارة تختصر مؤسسة قوى الأمن التي احتفلت أمس بعيدها الخمسين بعد المئة. فالمؤسسة هي «الوطن»، ونسخة مصغرة عن ملله المجتمعة كيفما اتفق، وعن أمراضه وفوضاه، ومن أكثر المؤسسات عرضة للانتقاد، لأسباب كثيرة. تبدأ من السياسة، ولا تنتهي بعوامل موضوعية، أبرزها أن المؤسسة هي الصورة الأولى للدولة: من شرطي السير إلى المخفر. ومن مراقبة البناء والآبار والكسارات والتعدي على البيئة، وصولاً إلى مكافحة الإرهاب.لكن أسباب انتقاد قوى الأمن ليست محصورة في كون رجال الشرطة هم «واجهة السلطة»، بل إن المؤسسة تعاني أعطاباً كثيرة، تجعلها ذات «جسم لبيس»، لكل أنواع الانتقادات.
تبدأ مشكلات المديرية من رجالها، ضباطاً وأفراداً. لدى هؤلاء شعور دائم بالمظلومية. ليسوا قديسين. لكن ثمة ما يجب أن يُسمع منهم. قبل الوصول إلى رتبة عميد، لن يجد رجل الأمن ما يكفيه ليعيش حياة كريمة. رواتبهم منخفضة (بعد أكثر من 15 سنة في الخدمة، لا يزيد راتب الرتيب على ألف دولار، ويقل راتب الضابط عن 1500 دولار). أما التقديمات، فليس فيها ما يرضي الضباط وكبار الرتباء سوى قسائم المحروقات. وفي المجال الصحي، لم يجرِ بعد إصلاح نظام المساعدات المرضية، فيضطر بعضهم إلى رشوة زملاء له من أجل الإسراع في معاملاته، وإلا فلن يكون أمامه سوى الانتظار أشهراً وسنوات أحياناً. أضف إلى ذلك أن نظام المكافآت والتحفيز مزاجي في معظم الأحيان، وتتحكم به اعتبارات سياسية وطائفية (مثلاً، لم يحصل ضباط على أي مكافأة رغم تعرضهم لخطر الموت أكثر من مرة، وفي مهمات تزهو بها المديرية كمكافحة الإرهاب، فيما زملاء لهم حصلوا على مكافآت من دون أي إنجاز يُذكَر، تأميناً للتوازن الطائفي).
وكما في باقي مؤسسات الدولة، كذلك في الأمن الداخلي. لم يعد القانون يحمي الموظف، أو يحدد واجباته وحقوقه. إذ يرى العدد الأكبر من رجال الأمن والضباط أن تدرجه وحصوله على مركز خدمة جيد وعلى المكافآت لا تعتمد على التزامه بواجباته وتطبيقه للقانون، بقدر ما تتصل بعلاقاته السياسية والمذهبية. وأبعد من ذلك، يوصل تطبيق القانون بعض الضباط والأفراد إلى استنزال غضب السلطة والقيادة، ما يجعل سياسة «ما دخلني» رائجة على نطاق واسع.
من جهة ثانية، تنظر السلطة إلى المديرية كذراع سياسية لها، من دون أن تؤمن لها ما يعينها على تنفيذ مهماتها. وصار مديح المؤسسة أو انتقادها يدخل في إطار اليوميات السياسية. فلا المتحمسون موسمياً للدفاع عن المؤسسة يقدمون لها غير الكلام، ولا المداومون على انتقادها يكونون دوماً مسلحين بالحجج (كالسجال الدائر على خلفية توقيف العميد المتقاعد فايز كرم). وفضلاً عن ذلك، فإن قيادة المؤسسة لم تفصل نفسها، خلال السنوات الست الماضية، عن المشروع السياسي الحاكم منذ الانسحاب السوري من لبنان، ما جعلها أكثر عرضة للهجوم السياسي في كل المراحل.
عديد المؤسسة لا يغطي متطلبات الأمن الوطني، ويجعل من القصور عن أداء المهمات سمة غالبة عليها. في الأصل، يحدد القانون والمراسيم الصادرة بداية تسعينيات القرن الماضي عدد أفراد قوى الأمن الداخلي وضباطها بنحو 29 ألفاً. تم تحديد الرقم من درس الحاجات الحقيقية لأمن البلاد. لكن هذا العدد، الذي يرى عدد كبير من الضباط الحاليين والسابقين أنه لا يسد حاجة البلاد، لم يجر تأمينه بعد. فعديد المديرية لم يتجاوز عتبة الـ24 ألف ضابط ورتيب ودركي. وهؤلاء تغيب عنهم التخصصية. فرجال الأمن والضباط الذين تفتح المديرية باب التطوع أمامهم، لا يعرفون أي وظيفة سيشغلون. رجل أمن لا غير. وخلال خدمته، يتنقل في معظم القطعات، من المخافر والفصائل، إلى السجون وتنظيم السير، مروراً بالوظيفة الحلم لعدد كبير منهم: الشرطة القضائية (أي التحري)، لأنها أكثر الوظائف دراً للمال: إكراميات ورشى ومعارف. و«هيبة» لا تفوقها رفعة سوى «هيبة» المعلومات والاستخبارات.
وعندما يخضع ضابط ما أو رتيب لدورات تجعله اختصاصياً في مجال أمني ما، ليس ثمة ضامن لبقائه في مركزه. فالقانون يفرض إجراء مناقلات دورية. أضف إلى ذلك أن الوساطات والتدخلات السياسية والتوازنات المذهبية تؤدي أدواراً بارزة في نقل الضباط والأفراد من مراكز عملهم. وفي المجال ذاته أيضاً، ثمة سوء توزيع للموارد البشرية في المديرية، فيخصص لأحد المخافر مثلاً ستة رتباء، يتولّون تطبيق القانون في عشر قرى، مجهزين بسيارة واحدة. نظام «شبه فيديرالي» يحكم المديرية، ويسمح لكل قائد وحدة بأن يوزع أفراده وفق مشيئته. وقائد الوحدة، كما المدير العام، تقف خلفه مرجعية وطائفة تمنعان محاسبته.
الأمر نفسه يسري على العتاد. السلطة السياسية لم تؤمن للمديرية خلال السنوات الست الماضية، سوى «سبل التسول». والمدير العام اللواء أشرف ريفي يكرر في مجالسه الخاصة أن المؤسسة تعيش على «الشحاذة». فالحكومات المتعاقبة لم تضع بعد أي استراتيجية أمنية يمكن من خلالها معرفة حاجات الأجهزة الأمنية وما يمكن تقديمه لها. وبناءً على ذلك، بقيت المديرية تنتظر عطايا الدول «الصديقة والشقيقة»، من سيارات ودراجات نارية ومعدات إلكترونية وألبسة وأسلحة وأموال بناء المخافر والفصائل.
ما ذُكِر ليس سوى جزء يسير من المشكلات التي تعانيها المديرية. وأمامها كان من الصعب العثور أمس على رجل أمن مبتهج بالعيد.



فساد وقوانين مهترئة

تبدو قيادة قوى الأمن الداخلي، ومن خلفها وزير الداخلية، في كل العهود، مستسلمة للفساد المستشري في مؤسسة الشرطة. فرغم التجارب التي أثبتت أن ثمة أجهزة أمنية وقطعات انخفضت فيها نسبة الفساد إلى حدوها الدنيا، لم تفعَّل الاجهزة الرقابية في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، لتبقى الامور على حالها، ومن سيّئ إلى أسوأ. ويجري التذرع دوماً بالحمايات السياسية والطائفية التي يحظى بها الفاسدون، وبالضغوط السياسية التي تتعرض لها المديرية. أضف إلى ذلك أن إدارة المؤسسة وسلطة الوصاية لم تقدما يوماً مشروعاً لتحسين الأوضاع المالية للافراد والضباط، أو لتطوير القوانين التي تحكم عمل المديرية، والتي تسودها الضبابية وتتداخل فيها صلاحيات القطعات، والعائد معظمها إلى عقود خلت، ووضع أحدثها بعقلية لحظة انتهاء الحرب الأهلية.