كرّس مجلس شورى الدولة، بقراره الذي سمح فيه بهدم البيت الواقع في العقار الرقم 1132 في الباشورة، سابقة قانونية قد تودي بتاريخ العاصمة، لأنه يفتح الباب أمام كلّ الراغبين في هدم بيوتهم، بمعرفة الآلية الواجب اتباعها لـ«التخلّص» من تصنيف قرار منع الهدم الذي أصدرته رئاسة مجلس الوزراء والذي يعمل به حتى الآن.قرار شورى الدولة جاء لافتاً لسببين: أولًا، لأنه الأول الذي تربحه الجهة المدعية، لبيت مصنّف درجة B. وثانياً، لأن المستفيدين من القرار سارعوا إلى الهدم في وقت قياسي، من دون الاستحصال على إذن من وزارة الثقافة وبلدية بيروت، غير عابئين بدفع الغرامة التي تترتّب على هذه المخالفة.
لم يأخذ القاضي بعين الاعتبار أهمية المبنى التاريخية والهندسية، ودوره في المحافظة على تاريخ العاصمة وهويتها، خصوصاً أنه مطلّ على وسطها التجاري والطرقات الأساسية فيها، بل قارب القضية من وجهة نظر مالكي العقار الذين تضرّرت مشاريعهم من قرار منع الهدم. فبعد استملاكهم للعقارات المحيطة بالبيت لتشييد أبراج باطونية، ارتأوا أنه لا يمكن المحافظة على البيت في مكانه، فطلبوا هدمه، مع العلم بأنه مصنّف من الفئة B، أي يتمتع بمواصفات تاريخية مميزة وهو بحالة جيدة جداً... حتى إنه كان مرمّماً!
خسرت وزارة الثقافة إذاً، وللمرة الأولى دعوى قضائية حول عقار بهذا الطراز، علماً بأنها كانت قد ربحت سابقاً سبع دعاوى مماثلة، (بيت لم يدخل في الجرد العام ووضعه العام دون مستوى بيت الباشورة). لكن القاضي كان قد حكم سابقاً بأن التصنيف وقرار منع الهدم يكفيان للمحافظة على البيت، وهو ما لم يعترف به القرار الحالي، الذي يرى أن حماية الممتلكات الثقافية بحسب قانون الآثار المعمول به لا تنطبق إلا على العقارات المدرَجة على لائحة الجرد العام. لكن يبقى السؤال: لماذا قرّر القضاء اليوم إعطاء المالكين الحق في الهدم، لبيت كان وضعه جيداً، فيما كان يرفض ذلك في السابق؟ هل أراد القاضي «تحرير» بيوت بيروت التاريخية وتعبيد الطريق أمام كلّ صاحب عقار أو مقاول يطمح إلى استبداله بأبراج عالية؟ هل يدعم القاضي البناء الشاهق على حساب الهوية والتاريخ؟
الجواب قد يكون بأن مجلس شورى الدولة «يحكم بالحق»، وأن حق الأفراد مكرس في هذا الوطن. لكن ماذا عن الحق العام؟ ماذا عن الحق بمدينة لها تاريخ وهوية يفترض أن نرفض الاستهتار بهما؟ لماذا لم يفرض مجلس شورى الدولة على الشركة العقارية (عالية وشركاه)، مالكة العقار، أن تحفظ البيت بعدما اشترت العقارات من حوله وهي تدخل ضمن مشاريعها؟ الشركة لم تقبل بأقلّ من الهدم، وأعطاها إياه القانون اللبناني. فما هو مصير باقي البيوت الآن؟
وهل كان يجب أن تبادر وزارة الثقافة إلى حماية البيت من قرار مماثل، عبر إدخاله في الجرد العام فتحفظه وتغير واقعه القانوني، خصوصاً أن القضية دامت سنتين أمام المحاكم؟
يرى حقوقيون أن المخرج القانوني لهذه الأزمة يكمن في إدراج كلّ البيوت ذات الخصائص الهندسية والتراثية في لائحة الجرد العام. وبالطبع النصيحة تكمن في إنجاز هذا العمل بأسرع وقت ممكن، وأن يوقع وزير الثقافة على هذه الطلبات بسرعة البرق، وإلا فالهدم آت لا محالة. لكن هذا المخرج يفترض أن المسؤول الوحيد في ملف التاريخ والهوية هو وزارة الثقافة فيما هي مسؤولية مشتركة مع البلديات والتنظيم المدني والمجتمع الأهلي الذي يجب أن يكافح للمحافظة على مدينته، خصوصاً الآن بعدما بات بيد المقاولين تدمير المدينة قانونياً. يجب العمل على أن يتحرك المجتمع المدني والجمعيات المعنية بالمحافظة على التراث ليبقوا شركاء مع وزارة الثقافة في الدعاوى للمحافظة على البيوت القديمة. الهدف الآن ألّا يتحوّل ملف الباشورة إلى سابقة تتكرّر كل أسبوع فينهار تاريخ العاصمة قانونياً وقضائياً.
يُذكر أن بيت الباشورة، وهو بيت لبناني تقليدي، كان كبيراً: من ثلاث طبقات، مطلّاً على الوسط التجاري، سقفه مغطى بقرميد أحمر، شبابيكه لها ثلاث قناطر. بيت كتلك التي تصوّر في كتب الأطفال والإعلانات عن لبنان وهويته الثقافية. بيت، كان لا يزال واقفاً وبأفضل حال إلى أن قرر القضاء أن يعطي، قانونياً، للجشع أولوية على هوية بيروت.