يجمع رؤساء بلديات مدن البقاع على القول إن العمل البلدي في لبنان يعيش في «عنق الزجاجة»، وإن الجغرافيا تتحكم في حيواتهم الإنمائية والتنموية. فالعمل البلدي لم يقدّم حتى الآن ما يرضي طموحاتهم في رفع شأن مدنهم ووضعها على سكة «الاستراحة» من تلاوة آيات الحرمان والمعاناة وأخواتهما، وتقاعس الدولة ومؤسساتها عن تلبية الحد الأدنى من تطوير قوانينها المرعية الإجراء في عمل السلطات المحلية.لا يجد رؤساء البلديات البقاعية الكبرى ما يسرّ القلب في السنة الأولى من ولاية مجالسهم البلدية الجديدة. اكتسبوا في عام واحد ما خبروه طوال سنوات مهنهم الأخرى. فمنهم من يخوض التجربة لأول مرة، وأصبح يملك قراءة خاصة للسلطة المحلية وأساليب عمل يرضي من خلالها مختلف مستويات الثقافة البلدية عند العموم، ومنهم من كان نشطاً في العمل البلدي سابقاً ويسعى الى تطويره وفق «الممكن»، وآخر «قهر» كل العهود السياسية اللبنانية والتباساتها وتربع على «قمة» البلدية لنحو عقدين من الزمن، قابضاً من خلال خبرته على نقاط القوة والضعف في العمل البلدي وأسراره الإدارية. إنهم مجموعة من الأشخاص يرسمون من خلال عملهم البلدي طموحات وأحلاماً تبقى أسيرة مؤسسات رسمية. وخير تعبير أو وصف ما يقوله رئيس بلدية بعلبك هاشم عثمان القادم من حقلي التعليم والتربية الى العمل البلدي: «تجربة سنة واحدة في البلدية تعادل تجربة 30 سنة في التعليم»، مؤكداً «أن نجاح العمل البلدي في لبنان يتطلب لامركزية إدارية. لا يمكن أن تبقى الدولة ماشية وفق قوانين قديمة. فتجربة سنة تؤكد لي أن نصف ولاية المجلس البلدي مخصصة فقط لإنجاز معاملات إدارية، 3 سنوات لا يمكن أن تكون كافية لتنفيذ برنامج إنمائي لمدينة كبيرة في ظل موازنات مالية محدودة، وتدنّي ثقافة دفع الرسوم المتوجبة. ومن هنا، فإن معظم وقتنا يذهب لمتابعة قضايا إدارية، وقد حققنا في سنة ما يمكن أن نصفه بإنتاجية إنمائية مقبولة رغم كل المعوقات».
وصف عثمان لتجربته في العمل البلدي، ووضعه الإصبع على الجرح من خلال معادلة سنة «بلدية» تساوي تجربة 30 سنة في التعليم الرسمي، تختلف عن تجربة رئيس بلدية جب جنين في البقاع الغربي خالد شرانق. فالأخير، المتربّع على كرسي رئاسة بلدية مدينته للمرة الثالثة، أنجز حسب وجهة نظره كلّ ما تحتاج إليه جب جنين من خدمات أساسية وبنى تحتية و«نهتم الآن بالإنماء الذهني. فقد حققنا من خلال استمرارية الحكم المحلي احتياجاتنا الأساسية، وبدأنا فعلياً التوجه نحو الإنماء الثقافي من خلال الندوات واللقاءات، عدا إدارة العمل الروتيني للبلدية وتنفيذ بعض نواقص البنى التحتية التي تحتاج إلى صيانة دورية».
تجربة شرانق الغنية في السلطة المحلية أوصلته الى نتيجة واحدة لا غير «الروتين الإداري مرض مزمن وهو ميزة نظامنا السياسي وأخواته من مؤسسات إدارية. لقد نجحنا لأننا استطعنا تدوير الزوايا، والعمل الطويل في البلدية أكسبنا خبرات لا تعدّ أو تحصى. البلد لم يعد قادراً على المشي بقوانين مرّ عليها الزمن. استطعنا في جب جنين تنفيذ الكثير من المشاريع في سنة واحدة، وهي مقرة أساساً قبل هذا المجلس البلدي. بينما زملاؤنا الجدد يحتاجون إلى أكثر من سنة لإنجاز معاملات إدارية أو معرفة أسرار العمل البلدي وقوانينه، ولا سيما إذا كانت مجالسهم البلدية السابقة غير منتجة أو انهارت نتيجة الخلافات السياسية، ما عطل استمرارية الحكم المحلي».
استمرارية الحكم في السلطة المحلية يجدها رئيس بلدية زحلة جوزف دياب المعلوف «ذات شأن وقيمة». فالرجل اكتسب تجارب متعددة خلال وجوده كعضو في مجلس بلدية مدينته قبل وصوله إلى رئاستها، وهو يعمل وفق شعار «حاكم المدينة خادمها» و«ما كان مقرّاً في البلدية الماضية ملتزمون به، وقد نفذنا في سنة واحدة معظم ما كان مخططاً من المجلس السابق. وبالتالي، فإن الحكم المحلي استمرارية، ومعاناتنا مقتصرة فقط على الروتين الإداري في مؤسسات الدولة وقوانين العمل البلدي التي تحتاج الى تطوير». ويضيف المعلوف إن بلديات المدن البعيدة عن العاصمة تتكبد خسائر أكثر كنتيجة طبيعية لبعدها الجغرافي عن «مركزية القرار الرسمي والواسطة السياسية»، لافتاً إلى أن أكبر معوقات العمل البلدي «ناجمة عن الخلافات السياسية، وقد استطعنا كبلدية مدينة في وسط سهل البقاع أن ننأى بأنفسنا عن الصراعات السياسية، رغم أنني شخصياً من المحسوبين على جهة سياسية، لكن تركنا السياسة خارج المبنى البلدي وقلنا لا مشاريع سياسية في البلدية». ويختم «السنة الأولى من ولاية مجلسنا البلدي كانت غنية... لمسنا أن الثغر في القانون البلدي كبيرة وتتسع تدريجاً. معاملة واحدة تحتاج إلى أكثر من عشرة تواقيع لتنجز في زمن ثورة الاتصالات والتكنولوجيا المتطورة، ورغم كل ذلك نفذنا 25 ألف معاملة إدارية بخمسين موظفاً فقط. سنة متعبة، لكنها كانت منتجة».
السنة البلدية الأولى كانت متعبة أيضاً، لكن منتجة في راشيا. فالعقبة الكبيرة التي واجهت البلدية في سنتها الأولى كانت حل أزمة مديونيتها كما يقول رئيسها مروان زاكي، العميد المتقاعد الذي يقارن بين العمل العسكري والمدني ويتحدث عن الاختلافات بينهما وأساليب عملهما، يرى في العمل المدني بلبنان «ارتجالية» أكثر مما هو مؤسساتي ومنظّم وفق القوانين. يكشف زاكي أن تجربته مع قوانين العمل البلدي «متعبة»، إلا أن له قراءة خاصة باللامركزية الإدارية ويقول: «اللامركزية من أهم الأنظمة لراحة المواطن، لكن في لبنان المشروع بحاجة الى دراسات مستفيضة وإلى حكومة مركزية قوية وقادرة على المحاسبة والشفافية. فالموظف هنا لا يلتزم بعمل المؤسسة وقوانينها، وإقرار اللامركزية سيحوّل لبنان الى إقطاعيات وممالك صغيرة».
الممالك الصغيرة التي يتخوّف منها زاكي لا يجدها رئيس بلدية الهرمل، صبحي صقر، وصفاً دقيقاً. فالهرمل البعيدة جداً عن بيروت، ومركز المحافظة زحلة هو بأمسّ الحاجة إلى إقرار اللامركزية الإدارية «لأن المراسلات الإدارية تحتاج إلى ما لا يقلّ عن 15 يوماً. ومن هنا، فإن إقرار اللامركزية أصبح أمراً ملحاً، وقد لمسنا في سنة واحدة أبرز معوقات العمل البلدي». ويرى أن بلديته حققت في سنة تعاوناً مهماً مع هيئات المجتمع الأهلي وإشراكهم في تطوير العمل البلدي كنتيجة طبيعية لغياب القوانين المتطورة. فـ«التعاون المشترك مع المجتمع المحلي لتفعيل سلطته المنتخبة له أهميته القصوى، وقد حققنا في سنة دراسات مشاريع ذات قيمة مهمة لتنمية الهرمل، فالتعاون أدى مثلاً إلى ارتفاع نسبة الجباية ورسم مشاريع أكثر ديناميكية». ويختم صقر أن إنتاجية بلدية مدينته في سنة، «رغم الشلل الحكومي ومؤسسات الدولة، يعطي مؤشراً عن مدى تطور العمل البلدي في الهرمل».



إنجازات بالمفرّق

استطاعت بلدية راشيا حلّ أزمة الكهرباء والمياه في المدينة. وقد خصصت السنة الأولى للإنارة من خلال شراء 4 مولدات خاصة بالبلدية لتوزيع التيار على الأهالي، بأسعار التكلفة فقط، كما نجحت في تأمين مياه الشفة من بئر ارتوازية. وفي جب جنين، نفذت البلدية خلال سنة 4 آلاف متر من الأرصفة وجدران الدعم وتنظيم مداخل المدينة. وحققت بلدية زحلة توازناً ماليّاً وإنجاز دراسات إنمائية متعددة، وفي بعلبك نفذت في سنة واحدة عشرات المشاريع الملحة وتسعى إلى التوأمة مع مدن عالمية. وفي الهرمل، حققت البلدية مجموعة كبيرة من الدراسات التي وُضعت على سكة التنفيذ كالمشاريع السياحية والبيئية والأشغال العامة، وفُعّلت الجباية بنسبة 30 إلى 35 %.