القاع | وكأن الدولة اللبنانية بمؤسساتها تفضّل المناكفات والنزاعات بين مواطنيها، فتبتعد عن تنفيذ القوانين فيما يرجو المواطن تطبيقها فيركض لاهثاً وراء ذلك دون أن ينال مبتغاه. ففي منطقة القاع في البقاع الشمالي، يشتد كل عام وطيس الخلاف والنزاع بين الأهالي على عقارات المنطقة غير المفروزة حتى اليوم، فيختلط حابل «المالكين الشرعيين»، بنابل «المالكين الجدد»، فيما تقف الدولة عاجزة منذ عام 1997 عن تنفيذ عملية ضم وفرز للأراضي الواقعة في القاع والهرمل ويونين لتقطع بذلك دابر الخلافات هناك وتحول دون تفاقم النزاعات بين الأهالي.منذ نحو عام سقط ابن بلدة القاع سعد الله ضاهر قتيلاً. ونهاية الصيف الماضي مع بداية العام الدراسي، نزل أهل القاع إلى الطريق الدولية وقطعوها اعتراضاً واحتجاجاً على قرار وزير التربية حسن منيمنة بإنشاء مدرسة في منطقة مشاريع القاع الرسمية (الدورة)، فلم يكن أمام أهل عرسال إلا النزول أيضاً في المقابل وقطع الطريق.
اليوم عادت حدّة التوتر لتتصاعد من جديد، فبعد رفض أهالي بلدة القاع «التعديات وأعمال البيع غير الشرعية ووضع اليد على عقاراتهم من أشخاص غرباء»، يقول سمير عوض، عضو بلدية القاع، وذلك بحسب رأيه يؤدي إلى خسارة حقوق المالكين الشرعيين للأرض «ويخلق ديموغرافية جديدة للمنطقة، ويتمثل ذلك بخسارة القاعيين لأكثر من 70% من أراضيهم». ما يتحدث عنه عوض استدعى عقد اجتماع واسع يوم الأحد الماضي في كنيسة مار الياس في القاع، حضره كل من المطران الياس رحال والنائب مروان فارس وعدد كبير من فاعليات البلدة البلدية والاختيارية والاجتماعية، للتباحث في مسألة أعمال البيع ووضع اليد الحاصل من أطراف من غير أهل القاع. نتج من الاجتماع تأليف لجنة من المالكين لمتابعة شؤون عمليات الفرز والضم المرتقبة، والعمل على وقف سائر أعمال البناء حتى انتهاء العملية، مطالبين الوزارات العمل سريعاً على إنجاز مراحل الضم والفرز، وإلا فسيكون هناك تصعيد وقطع للطريق الدولية وتحركات أخرى حتى الوصول إلى مطالبهم، بحسب ما أكده عوض لـ«الأخبار».
المحامي بشير مطر، عضو بلدية القاع، تحدّث في اتصال مع «الأخبار» عن استيائه الشديد مما يحصل في بلدته، موضحاً أن المشكلة لا تنحصر بأعمال الفرز فقط، بل أخذت «طابعاً طائفياً»، ذلك أن الأراضي المملوكة للدولة وحيث تخضع المشاعات لسلطة بلديات المنطقة، «يستعملها واضعو اليد بغير حق قانوني، دون أن يكون للقوى الأمنية أو البلدية أية سلطة لمنع ذلك أو قمعه». المحامي مطر طرح عدداً من التساؤلات حول هوية المسؤول بالقول: «لست مسؤولاً عن ابن الهرمل وعرسال». وأبدى تخوفه من أن أعمال وضع اليد والأشغال لا يمكن وضعها سوى في خانة «عملية تهجير للقاعيين، في ظل غض الطرف عن الرشى التي تحصل عليها القوى الأمنية»، لافتاً إلى أن القضاء مقصّرٌ في هذا المجال. فالقاضي لا يؤدي الواجب المطلوب منه، لأن الطرف الآخر يملك سلطة سياسية غالباً ما تُخضع القاضي. المحامي المذكور ذكر لـ«الأخبار» أنهم تقدموا ببلاغات عن أكثر من 140 مخالفة بناء، «فاكتفي بمحضر ضبط يدفع قبل أن تُستأنف متابعة المخالفات بوتيرة أسرع مما كانت عليه في السابق». ورأى مطر أن الحل يكون «بتشمير» البلدية عن سواعدها مع وضع آلية تنفيذ بالتعاون مع القوى الأمنية لقمع المخالفات المستحدثة في مشاعات منطقة المشاريع، حتى توقف سائر الاعتداءات والإبقاء على ما زرع حتى انتهاء عملية الفرز، مع مناشدة دار الإفتاء والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى التدخل ووضع حدّ لهذا «الاحتلال» على حد تعبير مطر.
من جهة ثانية، أكّد رئيس بلدية القاع بالإنابة ميلاد رزق لـ«الأخبار» أن بوابة الحل لكل هذه المشاكل هي عملية الضم والفرز، فالدولة مسؤولة عما يحصل في القاع نتيجة التأخير الكبير في عملية الفرز، ذلك أن المرحلة الأولى لم تنته بعد، على الرغم من مرور أكثر من 13 عاماً وصرف موازنتها البالغة 20 مليار ليرة، مشيراً إلى أن البلدية لا يمكنها ضبط الناس في ظل عدم تحديد مدة واضحة ومحددة لبدء عملية الفرز، الأمر الذي يضطر البعض من القاعيين أمام الحاجة إلى بيع أراضيهم بطرق غير شرعية، فيكون الشاري قد دفع أمواله دون أن يحصل على مستند رسمي يُثبت ملكيته، وذلك ما يعرف بأنه «وضع اليد» أي دون حصوله على ملكية «القيراط» (وحدة القياس المعتمدة في أراضي القاع). ذلك يتحمل مسؤوليته أيضاً الكاتب العدل الذي ينظم أعمال البيع هذه، وكل ذلك وفق تعبير رئيس البلدية. المجلس البلدي في القاع اتخذ منذ فترة قراراً يحمل الرقم 50 يؤكد أن «كل شخص، مهما كان دينه، يملك «قيراطاً» بنحو شرعي، هو صاحب حقوق في هذه الأرض، أما من اشترى بـ«وضع اليد» فليس له أي حق لأنه ليس المالك الشرعي للعقار» وفق قول رزق.
مختار بلدة عرسال حسن الأطرش، أكّد لـ«الأخبار» عدم صحة ما يتحدث عنه القاعيون، موضحاً أن 95 % من أهل المشاريع يملكون الأرض بطريقة شرعية وليس بوضع اليد، وأن 5% فقط هم الأشخاص الذين اشتروا بوضع يد، وذلك إبان الحرب الأهلية اللبنانية، حيث لجأ البعض، ممن لم يجد سبيلاً للسكن وعائلته، إلى شراء وفق صيغة «وضع اليد» بغية بناء منزل والسكن فيه وعائلته، مستغرباً «هل هناك أشخاص غير واعين حتى يشتروا ويدفعوا أموالهم مقابل وضع يد فقط بدون «قراريط»؟، مشدداً على أن ما يدّعيه أهل القاع «مغلوط»، وأن أهل عرسال في المشاريع من أشد المطالبين بعملية الفرز، وهم تحت القانون لا فوقه» كما يقول، موضحاً أن ابن منطقة مشاريع القاع يفضّل أن يصبح دونم الأرض بعشرة أو خمسة عشرة ألف دولار بعد الفرز من أن يكون بأربعة آلاف دولار، مشدداً على أن مشكلة أهل القاع تكمن في حركة نزوحهم إلى بيروت، حيث أقدم غالبيتهم على بيع ما يملكون من قراريط، «واليوم بعد تحسن سعر متر الأرض يريدون التذرع بأعمال غير شرعية، بغية الاستفادة من الأراضي التي تخلّوا عنها».



هل تبدأ عمليّة الفرز؟

عملية الضم والفرز في مناطق القاع والهرمل ويونين تمثل حلماً بعيد المنال بالنسبة إلى أهالي المنطقة البقاعية. فالمرحلة الأولى من العملية المذكورة التي تشمل أعمال المسح لم تنته بعد، حيث ستتبعها مرحلتان لاحقتان. وسيصار في المرحلة الثانية إلى تعيين قضاة عقاريين يتسلمون نتائج المسح التي أنجزت في المرحلة الأولى قبل البدء بأعمال الضم والفرز المرتقبة.
أما المرحلة الثالثة فهي عبارة عن إعطاء العقارات أرقاماً وتسجيلها في السجل العقاري. وبحسب معنيين متابعين لهذا الملف، يُنتظر أن تبدأ عملية الفرز العقارية في منطقة وادي الخنزير، بوصفها إحدى المناطق العقارية الثلاث في القاع.
فهل تبدأ الدولة العملية لتنهي المشاكل والنزاعات التي تحصل في المنطقة، ليتسنى عندها لكل طرف أن يعرف حدود ملكيته، فيلتزم بها؟ أم تبقى الأمور على غاربها، فتتأجج الأحقاد والمناكفات والنزاعات؟ الأسئلة برسم المعنيين في دولة المؤسسات والقانون.