يشهد مقر المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري هذه الأيام حركة ناشطة وجواً من الإثارة، ترقباً لنتائج الأحداث الدموية الأليمة في سوريا. ويُشغَل الموظفون في مكتب المدعي العام بمطالعة التقارير الميدانية والتحليلات السياسية بحثاً عن ثُغَر لخرق أسرار «الأمن» في سوريا وامتداداته الإقليمية. فتلك الثُّغَر تتيح مساهمات أشخاص سوريين بدّدت الأحداث الأخيرة تردّدهم في دعم القرار الاتهامي الدولي، عبر تزويد لاهاي بوثائق ومعلومات يمكن استخدامها بطرق مختلفة. وقد لا يهم أحداً في لاهاي التسليم باستحالة اختراق «الأمن» السوري من دون المسّ بأمن سوريا وبسلامة أهلها. لكن قبل عرض تطوّرات الربيع الهولندي، لا بد من الالتفات إلى ما يجري في بلاد الشام. لا شك في أن مطالب المحتجين في بعض المدن السورية محقة، ولا شك في أن في صفوفهم شباباً صادقين وحرصاء على أمن سوريا واستقرارها، لكن يبدو أن من بينهم كذلك أشخاصاً انتظروا هذه المناسبة طويلاً لضرب النظام الأمني السوري.
استُشهد أخيراً المئات، وقد تتضاعف أعدادهم إذا استمر بعض المتهوّرين باستخدام السلاح في وجه الجيش السوري. غير أن «الربيع السوري» قد لا يُجهَض إلا بواسطة ربيع آخر، هولندي ربما، ينتحل صفة ربيع العرب ليحقق أهداف صيف غربي حارق لا يمكن أن تتلازم مع أهداف الشعب السوري الطامح إلى الحرية والديموقراطية والوحدة الوطنية.
هو آخر صيف قبل انتهاء مهلة المحكمة الدولية في آذار ٢٠١٢. هي الفرصة الأخيرة لتوظيف هذه القضية في «لعبة الأمم». لكن على جريمة اغتيال الحريري وغيرها من الجرائم أن تخضع لتحقيق قضائي عادل ومستقل، لا لآليات مصمّمة لخدمة السياسة الدولية.
إن اتهام حزب الله بالضلوع في جريمة اغتيال الحريري «يجعلنا نحسم بأنه ما كان قد فعلها من دون دعم سوريا ومن دون مساعدة إيران»، قال أحد الموظفين في مكتب المدعي العام الدولي لصحيفة «لوموند» الفرنسية في 13 شباط 2010. يتّضح بالتالي أن الجهة الأساسية المستفيدة من ربيع لاهاي هي إسرائيل؛ إذ لا يَخفى على أحد أن حزب الله وسوريا وإيران يتصدّرون بالفعل لائحة أعدائها الكثر في المنطقة والعالم. لذا، إن عدم التسليم بأن إضعاف النظام في سوريا عبر إحداث بلبلة أمنية هو إحدى السبل الفعالة لزعزعة خط الإمداد الرئيسي للمقاومة (حزب الله اليوم والحركات اليسارية بالأمس) يبدو ساذجاً. أما القول بأنه لا صوت يعلو فوق صوت معركة حقوق الإنسان في سوريا، فقد يكون صائباً للبعض، شرط ألا تشهد تلك المعركة تجاوزات لأبسط حقوق البشر تفوق وحشيتها وحشية بعض الممارسات التي تستخدمها أجهزة الاستخبارات العربية والدولية، بما فيها الاستخبارات السورية، وشرط ألا يكون مصير سوريا مطابقاً أو مماثلاً لمصير العراق. فليسأل المتحمسون للانقلاب في سوريا ملايين اللاجئين العراقيين عن كراماتهم وعن حقوق الإنسان في بلاد ما بين النهرين اليوم.
إن المبادرة الأساسية التي تحتاج إليها سوريا، هي تطوير القضاء المحلي ليصبح نزيهاً ومستقلاً وقادراً، ما يتيح له كشف الحقيقة وعزل المتآمرين على أمن الشام عن المطالبين بالإصلاح الديموقراطي. أما اللجوء إلى الآليات القضائية الدولية، فيتيح للقوى المعادية لسوريا فرص التدخل في شؤونها الداخلية لخدمة مصالحها السياسية.
تزامن إدخال المدعي العام الدولي تعديلات على نص القرار الاتهامي (الذي كان قد أحاله على قاضي الإجراءات التمهيدية في ١٧ كانون الثاني الفائت) مع اليوم الذي أطلق عليه ناشطون سوريون اسم «جمعة التحدي». قد لا يكون لذلك التزامن في التوقيت أي معنى، وقد لا يكون لتوقيت التعديلات الأولى التي أدخلها دانيال بلمار على القرار الاتهامي عشية تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تأليف الحكومة في ١١ آذار أي معنى؛ فلعلّ الأمر ليس إلا مجرد صدفة. لكن ورد في البيان الذي صدر عن المحكمة يوم الجمعة الفائت أن بلمار عدّل القرار الاتهامي «لإضافة عناصر أساسية جديدة إليه لم تتوافر لديه من قبل». يعني أن تلك «العناصر الأساسية» توافرت لديه خلال الفترة الممتدة بين 11 آذار و6 أيار، ولا شك في أن أبرز أحداث تلك الفترة وقعت في سوريا التي كان التحقيق الدولي قد أشار في تقريره الأول (الذي رُفع إلى مجلس الأمن في 20 تشرين الأول 2005) إلى أسماء المسؤولين السوريين أنفسهم الذين قرّرت الولايات المتحدة أخيراً إنزال عقوبات دولية بحقّهم.
لو كانت المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الحريري قد تجنّبت تسريب وثائق وتسجيلات التحقيقات السرية، ولو ابتعد المدعي العام فيها عن المعايير المزدوجة من خلال التحقيق مع إسرائيليين بموازاة التحقيق مع لبنانيين وسوريين، ولو عملت بحسب «أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية» كما جاء في نص قرار مجلس الأمن الرقم ١٧٥٧/٢٠٠٧، لما استحق تعديل القرار الاتهامي التوقف عنده. لكن على الرغم من براءة بلمار إلى حين ثبوت العكس، يشير توقيت إعلان تعديل القرار الاتهامي إلى احتمال تدخل مكتبه، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في الشؤون السورية.