يرتفع الصراخ وتنهال الحجارة على حرّاس السجن وعلى رجال مكافحة الشغب الذين تجمّعوا في الباحة الداخلية بانتظار صفّارة انطلاق المداهمات لقمع العصيان.يحاول رجال الإطفاء تهريب خراطيم المياه الى داخل مبنى السجن لإطفاء حرائق أشعلها السجناء الغاضبون. يلوّح المتمرّدون بقضبان حديدية من خلف البوابة الأساسية للمبنى. يعلو الصراخ الى حدّ انقطاع الصوت وتجريد الكلمات من المعنى. يخرج بعض السجناء من أفواههم شفرات ويبدأون بتشطيب أجسادهم لتختلط دماؤهم بسواد آثار الحريق. تنقطع الكهرباء ويطوف السجن بالمياه والقمامة وبقايا أثاث الغرف.
يصل كبار المسؤولين الأمنيين والقضائيين الى السجن لمعالجة التمرّد والإشراف على إنهاء العصيان الذي يمتدّ من مبنى الى آخر. ويقتحم عشرات الإعلاميين مكاتب السجن
لنقل وقائع المؤتمر الصحافي الذي يعقده المدير العام لقوى الأمن الداخلي، ولتغطية الحدث الأمني الذي شغل البلاد والعباد.
لكن خلف القضبان مئات البشر الذين يتناسى الجميع وجودهم. خلف القضبان مئات الرجال الذين لم يشاركوا في الشغب. خلف القضبان أناس لا تلفونات لديهم ليتصلوا بالإعلاميين لبثّ شكاواهم المحقة تارة، والأخبار الكاذبة أطواراً أخرى، ولا تهتمّ بهم نشرات الأنباء ولا الصحف ولا بيانات الهيئات الإنسانية والحقوقية.
خلف القضبان مئات العيون الخائفة تراقب العسكر والمتمردين وهم يتواجهون بالحديد والنار. لن تتوجه عدسات الكاميرات نحوهم، ولن ينتبه لوجودهم أحد. هم الأكثرية الصامتة المظلومة الخائفة. يملأ الرعب صدورهم من المتمردين ومن العسكر على حدّ سواء، يتنشّقون دخان الحرائق ويصمتون. يعطون كلّ ما لديهم، وما لديهم لا يزيد على بضعة أغراض شخصية وقليل من الطعام، لمن يطرق باب زنازينهم الضيقة مهدّداً. هم ضحية الشاويش والضابط وجميع قبضايات السجن. وحدهم. سيبقون وحدهم مفقودين في دهاليز السجون المظلمة ولا يشعر بوجودهم أحد. ولا صوت لهم حتى يقال إن صوتهم ضاع وسط الفوضى والشغب والدخان. لا صوت لهم فهم كالأموات تتآكلهم أجسادهم ديدان الفساد وجرذان السجن... ولا ينتبه أحد لآلامهم الصامتة. الرعب يحكمهم. ولا إشارة إلى وجودهم سوى عيون خائفة تختبئ خلف القضبان وجسد نحيل يرتجف من الآتي.