منذ يوم اغتيال والده في 14 شباط 2005، سعى الرئيس سعد الحريري إلى الاقتصاص من القتَلَة. لكن عملية تحديد هوية هؤلاء القَتَلَة المجرمين مرّت بمراحل مخلفة استدعت تغيير وجهتها. فبينما طغى اتهام سوريا بالجريمة الإرهابية على المرحلة الأولى التي امتدّت من 2005 حتى 2008، انتقلت إصبع اتهام الرئيس الشاب إلى حزب الله في المرحلة الثانية التي تخلّلتها زيارة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز بصحبة الرئيس بشار الأسد لبيروت في تموز 2010. قد يكون للتحليل السياسي الإقليمي والدولي تفسيرات دقيقة لذلك التحوّل، غير أن الجانب التقني القضائي يستحقّ كذلك المراجعة والتوضيح؛ إذ يبدو أن نجل الضحية محاط بثلّة من المستشارين القانونيين، يتقاضون رواتب باهظة مقابل نصائح وتوصيات ألحقت وتستمرّ بإلحاق الأضرار بمصالحه؛ لأنها تنطلق من تحليلات ومعلومات خاطئة ونيات مشبوهة. المستشارون أقنعوا الحريري بعدم إعلان رفض اتهام أفراد في حزب الله بالضلوع في الجريمة، بينما لم يبادروا في خلال المرحلة الأولى التي تلت الاغتيال إلى إقناعه بعدم اتهام سوريا علناً. هذه الازدواجية في الموقف مثّلت عنصراً أساسياً خسّر الحريري موقع رئاسة الحكومة، من دون ممانعة إقليمية وعربية (بالحدّ الأدنى).
تجاهل القاعدة 74

«ماذا سيحدث إذا صدّق فرانسين القرار الاتهامي خلال الأيام المقبلة؟ متى يمكن الاطلاع على مضمونه؟» سأل الصحافي أرثر بلوك كبير مستشاري الرئيس الحريري للشؤون القضائية الدولية البروفسور الهولندي ميشا فلاديميروف في 28 آذار الفائت، فأجاب: «في هذه الحالة سيرسل إلى لبنان، وسيتضمّن عدداً من الأشخاص لا شخصاً واحداً. بعد ذلك يصبح القرار علنياً فوراً» (it will become public immediately). لكن فلاديميروف يجهل أو يتجاهل مذكّرة قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين في 19 كانون الثاني 2011 بشأن طلب المدعي العام عدم إعلان مضمون القرار الاتهامي حتى بعد تصديقه التزاماً بالمادة 74 من قواعد الإجراءات والإثبات. فالقاعدة المعنونة «عدم إعلان قرار الاتهام» تتيح لفرانسين، بناءً على طلب بلمار أن يأمر بعدم إعلان قرار الاتهام للعموم. ويجوز لبلمار إبلاغ قرار الاتهام أو جزء منه «إلى سلطات دولة معيّنة إذا رأى في ذلك ضرورة لغرض التحقيق أو الملاحقة».

تحديد خاطئ لاختصاص المحكمة

بعد سؤاله عما إذا كان للمحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري اختصاص قانوني للنظر في طلب اللواء الركن جميل السيد إطلاعه على مستندات تتعلّق باعتقاله التعسّفي، أجاب فلاديميروف: «رسمياً كلا» (Formally no). وأضاف أن «على المحكمة أن تتعامل مع قضايا تخصّ المدعي العام والمشتبه فيهم. بالإضافة إلى ذلك، يفترض ألا ننسى أن السيد يمكن أن يكون مشتبهاً فيه في قضية لاحقة». (نشره موقع إخباري إلكتروني لبناني المقابلة في 13 تموز 2010)، لكن تبيّن لاحقاً أن معلومات فلاديميروف وتحليلاته كانت خاطئة؛ إذ إن القاضي فرانسين أصدر حكماً في 17 أيلول 2010 أعلن فيه «أن المحكمة مختصة بالنظر في أساس الطلب، وأن المستدعي (السيد) يتمتع بصفة الادعاء أمام المحكمة بغية الحصول على مواد الملف الجزائي المتعلّق بقضية الحريري الخاص به». اعترض المدعي العام دانيال بلمار على قرار القاضي وتقدّم بطعن أمام غرفة الاستئناف في 28 أيلول 2010. وفي 10 تشرين الأول 2010 قرّرت غرفة الاستئناف، بالإجماع، ردّ الطعن و«تأكيد اختصاص المحكمة بالنظر في طلب المستدعي (السيد)، وتأكيد صفة المستدعي اللازمة للادعاء أمام المحكمة لطلب الاطلاع على مستندات قد توجد في ملفّه الجزائي».

الاتهام قبل ختم التحقيق

لم تقتصر اتهامات سعد الحريري لسوريا خلال المرحلة الاولى (2005-2008) على اغتيال والده، بل شملت أيضاً «تدبير محاولة اغتياله وفؤاد السنيورة» واتهامات بـ«تصدير الإرهاب إلى لبنان». وأعلن الحريري أن السوريين «قاموا بتصدير فتح الإسلام إلى نهر البارد والشمال» ويريدون أن «يتخذوا من الأوضاع في طرابلس ذريعة للدخول مجدداً على ملف لبنان والعودة الأمنية والعسكرية من بوابة طرابلس» (صحيفة الرأي الكويتية عدد 7/9/ 2008). وكان الحريري قد سُئل بعد وقوع جريمة اغتيال النائب أنطوان غانم في أيلول 2007، «من القاتل؟» فأجاب: «القاتل والمجرم واحد والسفاح واحد. بعدما قصفت الطائرات الإسرائيلية سوريا، ردوا عليهم بقتل اللبنانيين. هكذا ترد سوريا. ولم أرَ يوماً نظاماً أجبن من نظام بشار الأسد» وهدّد بأن المحكمة الدولية «ستحاسب هؤلاء القتلة المجرمين» (الموقع الإلكتروني لقوى 14 آذار في 20/9/ 2007). خلال تلك الفترة، كان سعد الحريري محاطاً بكبار المستشارين القانونيين الذين كانوا شهوداً على استباق موكّلهم نتائج التحقيقات الجنائية عبر إعلانه اتهاماً اضطر اليوم إلى العودة عنه. لكن رغم تراجع اتهام الحريري لسوريا ورئيسها عند انتهاء المرحلة الأولى في 2008، استمر بانتهاج أسلوب استباق ختم التحقيق رسمياً للتعبير عن خلاصات، وهو ما فعله خلال اجتماعه بالسيد حسن نصر الله في تمّوز 2010 عندما اتهم «عناصر غير منضبطين» في حزب الله بارتكاب الجريمة وطلب تسليمهم.
إضافة إلى مخالفة مبادئ العدالة، لم يسجّل الحريري أي مكاسب سياسية من خلال استباق التحقيق، بل يسهم ذلك كما أسهم في السابق في دفع الرجل إلى التراجع أو إلى خوض معارك ألحقت مزيداً من الأضرار بموقعه السياسي على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

غياب الوكلاء القانونيين

بثّت قناة «نيو تي في» اللبنانية مطلع هذا العام تسجيلات لمقابلات أجرتها لجنة التحقيق الدولية المستقلة مع الرئيس سعد الحريري. تضمّنت هذه التسجيلات سباباً وشتائم على لسان الحريري بحق أشخاص لبنانيين وغير لبنانيين. لكن الرئيس الشاب قدّم كذلك معلومات إلى المحققين قد لا تخدم مصالحه، وخصوصاً بعد كشفها للعموم، وهو ما دفعه إلى الاتصال بالأشخاص الذين تناولهم لمحاولة تبرير أقواله.
لكن المستغرب في كلّ ذلك غياب وكلاء الحريري القانونيين ومستشاريه عن اللقاءات التي جمعته بالمحققين الدوليين؛ فمن واجب هؤلاء المهني التدخل لمصلحة الحريري خلال المقابلات لتصحيح معلومة أو توضيح أخرى أو طلب وقف التسجيل والاختلاء بموكلهم لبحث ما يفضّل الإدلاء به وما يستحسن التكتم عنه.



قصر للعدل أم حديقة للأصنام؟

إن السبب الأساسي الذي كان قد أعلنه المطالبون بإنشاء محكمة دولية للاقتصاص من قَتَلة الرئيس رفيق الحريري عام 2005 هو عجز السلطات القضائية اللبنانية. لكن الحكومات الثلاث التي ترأسها فؤاد السنيورة وسعد الحريري لم تبادر إلى معالجة ذلك العجز. فلم تبذل جهود فعّالة لضمان الكفاءة والنزاهة والاستقلالية؛ إذ لم تخصص الميزانية المناسبة لترميم قاعات المحاكم ومكاتب القضاة والأقلام، ولم تدخل التعديلات المطلوبة على القوانين، ولم يفعّل التفتيش القضائي على نحو يقضي على الفساد قضاءً كاملاً.
مبنى قصر العدل في بيروت مهدّد بالتصدّع، لكن بدل المبادرة إلى إصلاحه، فضّل الرئيسان الحريري والسنيورة تشييد حدائق صغيرة مخصّصة لأصنام الشهداء. أما القضاة، فرواتبهم لا تساوي نصف رواتب مرافقي الحريري الأمنيين.
وبدل أن ينصح المستشارون بالاهتمام بتصحيح نظام العدالة في لبنان لملاحقة المجرمين في المستقبل ومنع إفلاتهم من العقاب، ركّزوا على إيهام الحريري بأن المحكمة الدولية وحدها تكفي.