لن يكون رئيس مجلس الوزراء المكلّف، نجيب ميقاتي، حاكم البلاد. لا الدستور يمنحه صلاحيات الحاكم، ولا الترتيبات السياسية القائمة تسمح له بأداء هذا الدور، ولا هو يتمتّع بالثقل المذهبي أو الطائفي أو الميليشيوي، ولا تتبنّاه قوة خارجية عظمى، ولا تتفق القوى المحلية على تنصيبه حاكماً على البلاد والعباد.صلاحيات الرئيس المكلّف تشبه عملياً صلاحيات رئيس الجمهورية. ويبدو أنهما يواجهان تحديات مماثلة. لعلّ أبرز مصادر تلك التحديات زعيمان سياسيان لا يخفيان رغبتهما في تولي رئاستي الجمهورية والحكومة، انطلاقاً من حجم تمثيلهما المذهبي/ الطائفي الواسع.
لن يكون الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي الحاكِم، لكن أمامه فرصة ذهبية لتولي دور المُحَكِّم. وقد يكون لبنان اليوم بحاجة الى مُحَكِّم أكثر منه الى حاكِم.
قبل عرض أدوات التحكيم المتاحة لميقاتي، لا بدّ من الإشارة الى أن التحكيم مسار خاص يختلف عن المسار القضائي العام لحل المنازعات، إذ يتيح الفصل بين أفراد متنازعين لا يعدّون من الجسم القضائي، ويرتكز دور المُحكِّم على المفاوضة والوساطة أو التوفيق، وعلى التقويم المحايد وتحديد الحقائق.
أمام ميقاتي ثلاث منازعات أساسية. منازعة بين قسم من اللبنانيين متمسّك بسلاح المقاومة، وقسم آخر يريد احتكار الدولة للسلاح، ومنازعة ثانية بين قسم من اللبنانيين متمسّك بالمحكمة الدولية الخاصة وقسم آخر يريد تعليق التعاون معها، ومنازعة ثالثة بين قسم من اللبنانيين متمسّك بالنظام الطائفي وقسم آخر يريد إسقاطه.
يمكن أن يركّز المحكّم بداية على تحديد مشروعية الدوافع. فلمن يتمسّك بالسلاح أسبابه وهواجسه، إذ إن الجيش اللبناني عاجز عن مواجهة العدوان الإسرائيلي. أما الذين يصرّون على احتكار الدولة وحدها السلاح، فتتمحور هواجسهم حول الخشية من استخدام السلاح في الداخل. ولمن يتمسّك بالمحكمة الدولية الخاصة أسبابه وهواجسه، إذ إن المحاكم اللبنانية عاجزة عن كشف الحقيقة ومقاضاة قتلة رئيس حكومة سابق، أما الذين يصرّون على تعليق التعاون مع المحكمة الدولية، فتتمحور هواجسهم حول الخشية من استخدامها لاستهداف المقاومة.
ولمن يتمسّك بالنظام الطائفي أسبابه وهواجسه، إذ إن الطائفية سبيل لتأمين حصصهم في السلطة، أما الذين يصرّون على إسقاط النظام الطائفي، فتتمحور هواجسهم حول عجز الدولة الطائفية عن تأمين حقوق المواطنين الأساسية على قاعدة المساواة بينهم.
يفترض أن يبادر المحكّم الى طرح البدائل تمهيداً لمناقشتها: تسليح الجيش أولاً، وتكريس عقيدته القتالية لمواجهة العدو الإسرائيلي، وإصلاح القضاء وتحصينه عبر تكريس استقلاليته وتطوير كفاءة القضاة والتأكد من نزاهتهم، وإطلاق برنامج تربوي اجتماعي لإحياء ثقافة ديموقراطية بعيدة عن كلّ أشكال التمييز الطائفي والمذهبي.
أمام الرئيس المكلف نجيب ميقاتي فرصة الخطوة الأولى باتجاه إخراج البلد تدريجاً من الغرق في مستنقع المنازعات. هي فرصة صعبة ولا ضمانات لنجاحها، لكن ضياعها قد يكون كارثياً وتأخّرها قد يحشر المحكّم في الوقت الضائع.