«لحّق حالك» لأن الفول المدمس في صور لا ينتظر طويلاً «واللي سبق أكل». ليس ذلك لأن محالّ بيعه قليلة، بل لأن الطلب عليه كبير ولا يرتبط بشروق الشمس، بل يبدأ منذ ساعات ما بعد منتصف الليل. «فول مزرعاني» و«فول بارود»، أقدم المحال في السوق القديم، تنفد طبختاهما عند التاسعة صباحاً كحد أقصى.
يوضح علي مزرعاني (62 عاماً) أن من «يقطف» الطبخة أولاً هم رواد المقاهي والساهرون في أنحاء المدينة الذين يختمون دائماً سهرتهم بطبق فول، وخصوصاً في عطلة نهاية الأسبوع. فئة أخرى تسنح لها الظروف لنيل حصتها من طبق مزرعاني الشهير: العمال والموظفون الذين يتوجهون الى أعمالهم في وقت مبكر.
أما في شهر رمضان، فيصبح الفول أحد الأطباق الرئيسية للسحور، إذ يستقبل الفوّالون زبائنهم منذ ما قبل منتصف الليل حتى موعد الإمساك. ولا يقتصر الزبائن على أهل المدينة فقط، بل إن سكان العاصمة وبعض المناطق يقصدون صور، كما صيدا أحياناً، تحديداً لتناول «صحن فول غير شكل». فكيف تكوّن ذلك الصيت؟
يسجّل آل بارود «براءة اختراع» الفول الصوري في المدينة التي كانت تجهل سابقاً هذا النوع. مؤسس «صناعة الفول المدمس والمتبل» هو عبد الحسين بارود، الذي ارتحل فتى الى حيفا في فلسطين في بداية الثلاثينيات لكسب عيشه. هناك، عمل طباخاً في مطعم شعبي يملكه لبناني يقدم الأكلات الفلسطينية ويتوافد عليه الجنود الإنكليز الذين كانوا يتمركزون في الجوار. تميز «العبد بارود» كما كان يُطلق عليه هناك اختصاراً، بلقمته، إلى أن قرر، إثر النكبة عام 1948، العودة الى مدينته وافتتاح مطعمه الخاص في السوق، الذي تخصص بإعداد الفول على الطريقة الفلسطينية. ذاع صيت «فول البارود» في صور، ليصبح كأنه علامة مسجلة، ثم بات من زبائنه البارزين رئيس الحكومة رياض الصلح آنذاك، ورئيس الجمهورية كميل شمعون. زيارات الرسميين منحت عبد الحسين لقب «فوّال الزعماء» وعزّزت شهرته بين صور وبيروت، ليمثّل نواة تقليد سرعان ما جرى تعميمه في صور، إذ سرعان ما تكاثرت محالّ الفول إلى أن اشتهر الفول الصوري عموماً بمذاقه المميز.
على بعد أمتار من محال الفول في السوق القديم، تقود الرائحة الى سوق القصّابين المسقوف حيث يعبق دخان الشواء. «كوانين» الفحم تمتد على الجانبين أمام صف طويل من الملاحم الصغيرة التي يقصدها الناس من مختلف المناطق. مثل الفول، تعود أصول إعداد اللحمة والكفتة المتبلة والمشوية والسودة النيئة الصورية إلى جذور فلسطينية أيضاً. فقد استقى مؤسس الملحمة الأقدم والأشهر في السوق، التي روجت لأساليب مميزة في صنع اللحمة، وهي ملحمة قرعوني، أصول عمله من فلسطين حيث عمل قبل عام 1940. وإذا تمشّى الزائر أمتاراً قليلة، فسيلتقي بسطات السمك الطازج الذي نُقل للتو من ميناء الصيادين المجاور. المليفا والمواسطة والسلطان والجربيدي حتى القريدس الصغير. كلها أنواع سمك اعتاد الصوريون إعدادها شيّاً على الفحم والحطب بعد وضعها على لوح حديدي ولفها بورقة ألومينيوم سميكة. سابقاً، لم يكن الناس يضيفون إليها بهارات أو متبلات خاصة. أما لاحقاً، فقد ابتكر الناس طرائق متنوعة ولا سيما مع افتتاح عدد كبير من المحالّ والمقاهي البحرية المتخصّصة بتقديم السمك المشوي والمقلي. بات هناك سمكة حرّة وصيادية الأرز والطاجن وصلصة البندورة والفلفل والحر.
وبين الفول والسمك واللحمة، يعترض طريق الزائر محل صغير يقدم أنواعاً معينة خفيفة من سندويشات اللحمة: إنها سندويشات الفتايل الشهيرة التي يعدّها محفوظ.
في عام 1951، افتتح الشقيقان يحيى ومحمد مطعم محفوظ، كان يبيع البسطرما والمكسّرات والعسل والفيصلية والعطور. وبحسب سلوان، ابن يحيى، لم يكن وارداً افتتاح مطعم يقدم مأكولات آنذاك «لأن الأكل خارج البيت عيب». بعد أكثر من خمسة وعشرين عاماً، وتحديداً بعد تعرض المحل لقصف إسرائيلي خلال اجتياح عام 1978، انتقل المطعم، بحلته الجديدة، لتقديم سندويشات «النواشف» أي اللبنة والزيتون والعسل والمربى، إلا أن انتشار اللحمة، التي لم تعد محصورة بالفئات الميسورة، بين الناس، أدى إلى تحول المطعم الى تقديم أنواع اللحوم، ولا سيما الفتايل منها.
من المسلخ الذي كان يحاذي المطعم، كان الشقيقان يختاران لحم العجل الذي يقطّع في المحل قطعاً ناعمة صغيرة على ماكينة يدوية، قبل أن ينقع بالبهار والملح والحر ويقلّب في وعاء ألومينيوم على بابور الكاز مع إضافة الزيت النباتي والسمنة الدسمة. والى السندويش بالخبز العربي، تُلف الفتايل مع قطع البندورة والطرطور والكبيس.