لأنّ علاقتي بالكتابة كعلاقة العين باليد، ترفدها بالفيء وتكفكف شرابها الدالق، حين ترنو بمداها إلى المجال الأوسع، إلى الأفق البعيد ـــــ القريب. ما رأتني أحبّها بقدر ما كتبتُ وأكتب لأني أحبّ... ذلك أنّ الإحساس هو في أساس التواصل، لا يستقيم جسره بدون دعاماته. هو الذي يحيي الجامد، يبثُّ فيه الروح، فينطق الورق، كما الحجر بيد النحّات، بلغة القلب، ويفيض نبضه حبّاً دافئاً وساعداً عاضداً. من رحم الحرمان ووجعه، ينبلج فجر العطاء بفرحه. من أطلال القمر وتداعياته، تنبثق مداميك التغيير برمزيته. من أنقاض الظلم وفجيعته، يتفجّر ينبوع العدالة بسموّها. فكيف نكون مجهولين، وقد رأينا... فشهدنا... وإذا أفعالنا التي ترجمت أقوالنا والمبادئ، تعرّف إلينا. وكيف نكون مغلوبين ولا نُسحق بقولة الحق والتزام الصدق. وكيف نكون تعساء، ورجاؤنا لا حدّ له. وكيف نكون فقراء، وبالإيمان نغنى. كأنّ في لغة الظاهر، لا شيء لدينا فيما نملك في لغة الحقيقة، كلّ شيء! عندما يتنفّس الإنسان، ضِعةً وادعةً وصلاة، يمتلك الرؤية الحسنة، فيرتقي بشهادته إلى أعلى مراتب النُبْل، حتى سوداوية الرحيل تفقد مرارتها بالتسليم إلى مَن «لتكن مشيئته». وإذا ما نأى الرخاء، وارتحل إلى مساحات ضوئيّة تقارب عدم اللقاء، فإنّ بكنز الاقتناع الذي لا يفنى، الحلم الذي يومض ولا ينسحب... كلما حُرم المؤمن، الملتزم، الثابت، غير المتألّب وغير المتقلّب، الوفي، الصادق، ازداد بوزنات المحبّة والأمل. كلما استُفرد، اشتدّ ساعده، بسلام داخلي لا يناله تهميش، وبسكينة لا يطاولها تهشيم. كلما ظُلِم، عفا، فكبر وصغروا.
كلما ازداد القهر ازداد العفو. كلما استغاث الوجع فاض الرجاء. بملكة الصبر، بسموّ التضحية، يحترق الظالم بأفعاله، ليتقدّس المظلوم. هي الشهادة أمام الله الذي يرى الجميع، إذ في سبيل المبادئ، والقيَم والأخلاق، تجب الشهادة... ولو إلى حدّ الاستشهاد!!
فلا يعود من فارقٍ بين سوءِ السمعةِ وحسنها، بين الكرامة والمهانة، على خطى بولس الرسول، ما دامت القبلة هي الحق، ولو أن الدرب موحشة، لقلّة السالكين، فمَن الذي يتكلّم، وبمَ؟
أبكرسيّ من خشب أم من ذهب، ستفنى؟ أبموقع من أحلام وآمال، سيندثر ويتبخّر. أم بسلطةٍ، ما كانت اتّصلت لو دامت، أم بجاهٍ، لن يتفلّت مهما كابر أو ناور، من لقاء التراب! بين لحظات الضعف ومحطّات الانبعاث، هي رحلة العمر تشقّ مسيرتها بثبات المبدأ وصلابة الاعتناق. ولن يُقدّر لطارئ أن يأخذ منها الوهج؛ فالحلم لا يقاس، والجرأة غير معدية، تكونها ولا تُكتسب، تكونها ولا تُصطنع. أما الأهليّة فلا تحدّدها إرادة القانون بل قانون الإرادة. هي رحلة العمر، بمجرد أن انطلقت... عصت على الأنواء. هي رحلة عمر بعمر الرحلة... فإلى مَن اقتنع... فاعتنق... فاجتهد... فتجرّأ... فشهد... ولو إلى حد الاستشهاد.
هي نقطة عطاء في بحر متماوج ما كان ليزداد بها ربما، لكن، بالتأكيد لينقص من دونها. في عيدِكِ اليومَ، وبعدما سألتك في مثل هذا اليوم لعلّكِ تقرئين نجاحك.. إليكِ شهادتي.

* القاضي الذين منح أماً لبنانيّة
حق إعطاء جنسيتّها لأولادها عام 2009