يفترض أن ينطلق النقاش حول دستورية المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري أو عدمها من بحث في مستلزمات الحفاظ على سيادة الجمهورية اللبنانية. وإذا كان موضوع إنشاء مجلس الأمن الدولي للمحكمة الدولية من خلال إقرار اتفاق بين الأمم المتحدة والجمهورية اللبنانية من دون توقيع المسؤولين فيها ومن دون إيلاء الاعتبارات الدستورية الوطنية أي اعتبار، مثيراً في الأوساط القانونية، فإن رفض جميع الدول الأخرى توقيع بروتوكولات تعاون مع المحكمة يفضح الاستباحة التي يتعرّض لها لبنان.
نعرض في هذا الجزء الثاني من الملفّ عن تقرير رئيس المحكمة الدولية القاضي أنطونيو كاسيزي قضية تعاون الدول مع التحقيق الدولي وتدخّلها لتوظيف عمل الآلية القضائية الدولية في إطار «لعبة الأمم».
«أعربت دول عديدة عن عدم استطاعتها إبرام اتفاقات رسمية لمواجهتها صعوبات محليّة في المصادقة على أي معاهدة دولية وتنفيذها على وجه السرعة. عوضاً عن ذلك، عرضت هذه الدول أن تتعاون مع المحكمة بنحو غير رسمي في كل قضية على حدة. وفي غياب قرارات ملزمة صادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بسبب الوضع القانوني الفريد للمحكمة، لم يوضع أي إطار قانوني متين للتعاون مع الدول، إلا مع الدولة اللبنانية». هذا ما ورد في الصفحة 36 من تقرير كاسيزي الذي وجّهه الى بان كي مون وسعد الحريري. يستدعي ذلك التوقف عند النقاط الآتية:
أولاً، إن «الصعوبات» التي واجهتها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2007 في إبرام الاتفاق الدولي الذي ينشئ المحكمة الدولية عبر القنوات الدستورية اللبنانية تتناسب مع الصعوبات التي تواجهها أي دولة من الدول الأعضاء في منظّمة الأمم المتحدة لإقرار اتفاقات تتجاوز السيادة القضائية لتلك الدول. وبالتالي فإن كاسيزي يقرّ بنحو غير مباشر بأن الدول التي تتمسّك بسيادتها الوطنية لم توافق على توقيع بروتوكولات تعاون مع المحكمة الدولية، أما لبنان، فمميّز عن الدول الأخرى، أو بكلمات أكثر وضوحاً: هو فاقد للسيادة.
ثانياً، إن تعاون الدول غير الرسمي مع المحكمة «في كل قضية على حدة» هو تعاون انتقائي يخضع لاعتبارات سياسية مرتبطة بحفاظ تلك الدول على مصالحها. بالمقابل، لا يخضع تعاون لبنان لهذه الاعتبارات، فقد سُلّم مصيره للعبة الأمم وأصبحت مصالحه في مهبّ العواصف السياسية الدولية، التي لا يمكن أن تتحكم الدولة اللبنانية بها.
ثالثاً، إن عدم تعاون الدول مع بعض طلبات المدعي العام الدولي يؤخر تقدّم التحقيقات وقد يمنع المحكمة من تحقيق العدالة الصادقة. ففي تقريره، شدّد كاسيزي على «أن تعاون الدول عنصر حاسم في تمكين مكتب المدعي العام من إنجاز ولايته بنجاح. وغالباً ما يصعب الحصول من الدول على تعاون، وفي بعض الأحيان على معلومات، في الوقت المناسب» (صفحة 25).
طلب الدعم السياسي
اللافت في تقرير كاسيزي عن علاقات المحكمة الخارجية، إشارته إلى طلب المحكمة الدولية «دعماً سياسياً» من الدول، إذ ورد أن رئيس القلم هيرمان فون هابيل «سافر إلى عدة عواصم للدعوة إلى زيادة الدعم السياسي والمالي للمحكمة» (صفحة 16). لكن إذا كان المقصود بـ«الدعم السياسي» التزام الدول مقتضيات القرار 1757/2007 فهذا لا يدخل ضمن صلاحياتها، بل هو من اختصاص الأمين العام للأمم المتحدة، أما إذا كان الأمر يعني مواجهة منتقدي المحكمة الدولية فهذا يُدخل المحكمة طرفاً مباشراً في صراعات سياسية محليّة ودولية لا يفترض أن يكون لآليّة عدلية صادقة دور فيها.
كاسيزي يشير في الصفحة 39 من تقريره الى «الامتناع عن أخذ الاعتبارات السياسية في الحسبان»، فلماذا يطلب رئيس القلم إذاً «دعماً سياسياً» للمحكمة الدولية؟
يشير هذا التناقض الى إرباك تعانيه المحكمة في مساعيها لإثبات عدم خضوع عملها للتسييس.
إذا كانت المحكمة، والعاملون فيها، فعلاً ممتنعة عن الأخذ بالاعتبارات السياسية، فلماذا يسافر ممثلون عن مكتب المدعي العام إلى نيويورك كما ورد في الصفحة 17 من تقرير كاسيزي؟ فرئيس القلم، بحسب النظام، هو المكلّف التنسيق مع لجنة الإدارة في نيويورك لا المدعي العام. وكان مراسل جريدة «السفير» في نيويورك قد أكّد اجتماع دانيال بلمار بمساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان خلال إحدى زياراته لنيويورك. ولم تعرف أسباب الزيارة وأهدافها.
على أي حال، حاول كاسيزي في تقريره إيجاد صيغة بديلة بعد رفض الدول التوقيع على بروتوكولات تعاون مع المحكمة عبر حفاظه على «التواصل مع دبلوماسيين من بعض بلدان المنطقة، ومن عدد قليل من البلدان الأخرى، وذلك لتعزيز التعاون القضائي مع المحكمة». ويحتمل مصطلح «التعاون القضائي» تفسيرات عديدة خصوصاً خلال مرحلة التحقيق المستمرّة...
(غداً حلقة ثالثة: حروب المحكمة وإخفاقاتها)



«المستقبلي»

حدّد تقرير القاضي كاسيزي «النهج المستقبلي» لعمل المحكمة الدولية في ما يعني تعاون الدول، مشدداً على «تعزيز العلاقات مع الدول الثالثة من أجل تأسيس شبكة تعاون ثابتة تسهم في مواصلة عمل المحكمة» (صفحة 14). وكلّف رئيس القلم الهولندي هيرمان فون هابيل «مهمات دبلوماسية خارجية ذات شأن». ومن بين تلك المهمات، السعي إلى توفير تمويل كاف لعمل المحكمة، والتفاوض بشأن اتفاقات إقامة الشهود، «فضلاً عن ترتيبات التعاون الأخرى مع الدول». ولم يحدّد تقرير كاسيزي طبيعة تلك الترتيبات، لكن يرجّح أنها تعني التحقيقات التي يجريها مكتب المدعي العام. قد يتيح ذلك لرئيس القلم الاطلاع على بعض مجريات التحقيق الذي يفترض أن يبقى سرياً ولا يفترض أن يطّلع عليه حتى الرئيس كاسيزي نفسه.



تحديد سوريا دون غيرها

لفت تقرير كاسيزي (في الصفحة 11) إلى أنه وجّه «رسائل رسمية الى سلطات دول أعضاء في الأمم المتحدة بشأن تعاونها مع المحكمة. وإضافة إلى ذلك، عقد الرئيس ونائبه اجتماعات مع عدد من الدول المهتمة في لاهاي (بما فيها سبع دول من دول المنطقة)، وأجريا اتصالات مع السفير السوري في بروكسل ناقشا معه فيها جملة مواضيع، منها التحديدات الراهنة، والأشكال المبسّطة للتعاون القضائي، وتعيين جهات اتصال». الغريب في الأمر ذكر كاسيزي التعاون مع سوريا من دون تحديد أي دولة أخرى، فلم يقتصر تواصل الرئيس ونائبه مع سلطات دول أعضاء في الأمم المتحدة على الاتصال بالسفير السوري بل اختار كاسيزي، لأسباب سياسية على ما يبدو، عدم تحديد الدول التي أرسل إليها رسائل واجتمع بممثلين عنها.