«عضو مجلس النواب يمثّل الأمة جمعاء، ولا يجوز أن تربط وكالته بقيد أو شرط من قبل منتخبيه»... هذه الكلمات ليست اجتهاداً دستورياً، ولا رأياً سياسياً أو موقفاً حزبياً، بل هي نص المادة 27 من الدستور اللبناني. هكذا، ومع وضوح النص وصراحته (الذي لا يصح الاجتهاد قبالته) فإن الأيام الأخيرة شهدت مواقف سياسية من بعض نواب الأمة، حيال الأزمة الحكومية، دلّت على مدى جهل هؤلاء بالدستور.في الانتخابات النيابية الأخيرة، دخل النائب وليد جنبلاط ومعه مرشحو كتلته المعركة الانتخابية متحالفين مع تيار المستقبل ورئيس الحكومة السابقة سعد الحريري. بعد نحو سنة ونصف سنة على الانتخابات، وتأليف جنبلاط كتلة اللقاء الديموقراطي، انفرط عقد هذه الكتلة مع تسمية 6 من أعضائها، إضافةً إلى جنبلاط، النائب نجيب ميقاتي لتأليف الحكومة، فيما سمّى الباقون سعد الحريري. خرج الأخير، ومعه عدد من أعضاء كتلته النيابية، ليعلنوا أنهم تعرّضوا لـ«الخيانة من حلفاء الأمس». التهمة نفسها وجهت إلى ميقاتي لقبوله الترشح في مقابل الحريري، بعدما كان قد فاز في الانتخابات النيابية ضمن لائحة ائتلافية مع تيار المستقبل في الشمال، مطالبين إيّاه بالنزول عند رغبة الناخبين الذين أعطوه أصواتهم.
إزاء هذا الواقع، تبرز عدّة أسئلة بشأن دستورية هذا المطلب، فهل يحق للنائب أن يتخذ قرارات ومواقف سياسية مخالفة لمواقف ناخبيه؟ بمعنى آخر، هل وكالة النائب التمثيلية في البرلمان إلزامية؟ الجواب في الدستور اللبناني واضح، وتحديداً في المادة 27 الآنفة الذكر، إذ لا يجوز ربط الوكالة التمثيلية بقيد أو شرط من قبل الناخبين، وبالتالي هو حر في اتخاذ الموقف الذي يراه مناسباً. في هذا الإطار، يذكر خبراء الدستور مقولة للنائب الفرنسي كوندورسيه بعد الثورة الفرنسية عام 1789، التي استقت منها كثير من الدول، ومنها لبنان، القيم والمبادئ الدستورية، إذ يقول: «بوكالتي عن الشعب، سأفعل ما أعتقد أنه الأكثر توافقاً مع مصالحه. فالشعب بعث بي لأعرض أفكاري لا أفكاره. الاستقلال المطلق لآرائي هو أول واجباتي نحو الشعب».
في هذا السياق، يرى صاحب كتاب القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، الدكتور محمد طي، أن النائب قادر على تقدير الموقف أكثر من الناخب، حيث إن الأخير يتصرف غالباً بطريقة عاطفية. ويلفت طي في حديث مع «الأخبار» إلى الحالة التي مرّ بها لبنان في الأيام الأخيرة، لناحية تسمية رئيس للحكومة، فيرى أن خيار بعض النواب تسمية نجيب ميقاتي جاء «لأنهم رأوا أن البلاد معرضة للانقسام، وأن ثمة ضرورة للإصلاح، فصار لزاماً عليهم إنقاذ الوطن، هكذا كانت وجهة نظرهم». أما عن إلزامية الوكالة النيابية أو عدمها، فيؤكد طي «أنها في لبنان، على غرار معظم دول العالم، ليست إلزامية، وأصلاً لا توجد نماذج كثيرة على الوكالة الإلزامية، فهي موجودة حالياً في بعض الولايات في الولايات المتحدة الأميركية، وقديماً كانت مطروحة في بعض الدساتير الاشتراكية، حيث يمكن الناخبين التدخل من خلال عرائض ولوائح تواقيع تفرض على النائب تغيير موقفه، وبكل الأحوال تبقى هذه نظرية ولا نماذج بارزة لها في العالم، لذلك ففي ظل الدستور اللبناني، كما الدستور الفرنسي، لا يمكن الناخب إلزام النائب تغيير مواقفه وآرائه، بل فقط يمكنه عدم التصويت له مجدداً بعد انتهاء مدّة الولاية النيابية».
يتفق رئيس مجلس شورى الدولة الأسبق، القاضي يوسف سعد الله الخوري، مع هذا الرأي، فيرى أن لا شيء اسمه «وكالة إلزامية للنائب في لبنان. المهم أن لا يخون وطنه بما تنص عليه القوانين، وسوى ذلك لا شيء عليه طالما هو يحترم الدستور». أكثر من ذلك، لا يمكن الناخبين خلال الولاية النيابية إلزام النائب بالإيفاء بوعد كان قد قطعه قبل انتخابه. ويرى القاضي الخوري في حديث مع «الأخبار» أنّ الموقف والموقع السياسيين يحق للنائب المنتخب أن يغيّرهما حتّى، فهذا لا يُعدّ خيانة بحسب الدستور، وله مطلق الحرية في ذلك. ويشير الخوري إلى أن من يريد أن تكون وكالة النائب إلزامية، ما عليه إلا الدعوة إلى تعديل النص الدستوري، وإلى أن يحصل ذلك، يستمر العمل بالوكالة غير الملزمة.
في المقابل، يرى بعض الخبراء الدستوريين أنه في ما خص الدستور اللبناني، فإن حسابات الحقل لا تتوافق مع حسابات البيدر، فإن كانت معظم الدول تتخذ من الأمة مصدراً لسيادتها، ويسري فيها هذا المبدأ بطريقة طبيعية، فإن النظام الطائفي في لبنان يجعل من عبارة كـ«نائب عن الأمة» مجرد عبارة نظرية لا تستقيم مع الواقع. ويرون أنّ النظام في لبنان يمكن وصفه بالأوليغارشي أكثر من كونه ديموقراطياً، وذلك انطلاقاً من اعتبار أن الحكم فيه بيد الأقليات الطائفية، حيث يُختصر عادةً بالمؤسسات الطائفية والزعماء الطائفيين، فتنتخب كل طائفة ممثلين عنها في البرلمان، وهؤلاء بالتالي يقررون ما يريدون دونما خضوع لإرادة الشعب.
يلفت إلى هذه المشكلة ـــــ المفارقة أحد أهم الخبراء الدستوريين في الشرق، الدكتور إدمون رباط في كتابه «الدستور اللبناني»، فيرى أنه بحسب المادة 27 من الدستور يكون النائب ممثلاً للأمة جمعاء، وما يكوّن الأمة «هو إرادة العيش المشترك»، وبناءً على ذلك، فإن لبنان لا يُكوّن أمة لكون إرادة العيش المشترك فيه ضعيفة، ونوابه لا يتمتعون، رغم النص الدستوري الصريح، بوكالة غير ملزمة لسببين: الأول لكونهم يمثلون طوائفهم أكثر من وطنهم، وهذا ما تعكسه تصريحاتهم واحتجاجاتهم، أما السبب الثاني، فتعكسه علاقاتهم مع أحزابهم وناخبيهم ومناطقهم، وأيّ إخلال بالالتزام الحزبي من جانبهم، أو أيّ امتناع عن الدفاع عن مصالح منطقتهم وناخبيهم أمام الإدارات الرسمية، وحتى القضائية منها، تنتج منه خسارة أصوات حزبهم وناخبيهم في دائرتهم الانتخابية. أحد الخبراء الدستوريين يشير إلى أنّ رأي إدمون رباط يحاكي الواقع فعلاً، لكنّ النص الدستوري القائم حالياً مخالف لذلك، ويلفت الخبير إلى أن مقاربة رباط لهذه القضية تأتي أيضاً من منطلق عقيدته القومية العربية وأيديولوجيته، بحيث لا يرى في لبنان أو سواه من الدول أمة، إنما الأمة في مجموع الدول العربية.
هكذا، يبقى لبنان بلد المغالطات الدستورية بامتياز، مقارنةً ببقية دول العالم، فإن كان نظام الحكم الديموقراطي بحد ذاته لم يسلم من نقد كثير من المفكرين الغربيين، أمثال الفيلسوف جان جاك روسو، الذي يقول في كتابه «العقد الاجتماعي» إنه «إذا حاولنا أن نطبّق مفهوم الديموقراطية تطبيقاً متشدداً، فإنها لم توجد بطريقة حقيقية ولن توجد أبداً. وإذا افترضنا أنه وجد شعب من الآلهة، فهم سيحكمون أنفسهم ديموقراطياً»، فما بال روسو لو سمع بأنّ ثمة بلداً يُحكم اليوم بنظام مبتدع اسمه «الديموقراطية التوافقية الطائفية»!



نواب الأمة أحرار

يرى الخبير في القانون الدستوري، الدكتور محمد المجذوب، أنه في أغلب دول العالم، بل يمكن القول في كل دول العالم، لا دستور ينص على أن الوكالة النيابية بين النائب المنتخب والمنتخبين إلزامية، إذ يمكن النائب أن يمارس كامل حريته في تغيير موقفه السياسي، ولا يمكن الناخبين عزله أو سحب الوكالة منه خلال الولاية النيابية.
ويلفت صاحب كتاب «القانون الدستوري والنظام السياسي في لبنان»، أنه في الماضي السحيق، قبل قرون في أوروبا، حصلت بعض التجارب كانت فيها الوكالة إلزامية وكان يمكن الناخبين إقالة النائب إذا خالف مطالبهم خلال ولايته، لكن هذه النماذج لم تدم وأصبحت ملغاة.
أما في لبنان، الذي ليس فيه أحزاب ذات انتشار شامل على الأراضي اللبنانية، فإن انتقال النواب من كتل نيابية إلى أخرى يحصل دائماً؛ فمثلاً اتفاق 17 أيار عام 1983 صوت عليه معظم النواب، ثم بعد ذلك صوّت لإلغائه النواب أنفسهم لاحقاً.
إذاً لا يمكن منع النائب من تغيير آرائه السياسية، وعلى هذه القاعدة تجري الحياة السياسية في كل دول العالم.