إن المهمة الساسية الملقاة على عاتق مجلس الوزراء الآتي، هي التعامل مع المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بحيث لا يؤدي ما قد يصدر عنها إلى إشعال فتنة مذهبية في لبنان. وانتقلت أمس المسؤولية في هذا الصدد من يد الرئيس عمر كرامي إلى يد الرئيس نجيب ميقاتي الذي بدا الأوفر حظاً لتولي رئاسة مجلس الوزراء. سئل ميقاتي أخيراً عمّا إن كان قادراً على «تحمّل التزام بمثابة إلغاء ارتباط لبنان بالمحكمة الدولية؟»، فأجاب: «هذا موضوع خلافي ضمن مواضيع خلافية أخرى حله يكون من خلال الحوار داخل المؤسسات». يدخل هذا الجواب في إطار التوجّه الهادئ والمسؤول الذي قرّر ميقاتي انتهاجه للتخفيف من امتعاض أوساط واسعة داخل المذهب السنّي من عدم تسمية نجل الشهيد رفيق الحريري لترؤس الحكومة. فميقاتي يطمح إلى الظهور بصورة الرئيس العاقل الذي يجنّب اللبنانيين ويلات الفتنة ولا يتراجع عن مطالبة السنّة خصوصاً بالاقتصاص من قتلة الرئيس الحريري. وهو مدرك أن جريمة 14 شباط 2005 حرّكت عصبيات مذهبية، ومدرك كذلك لمرور ستة أعوام على الجريمة؛ إذ بدأت سكرة الغضب العمياء تتراجع، وحلّت فكرة العاقل لحماية المصالح عبر الحفاظ على الاستقرار.
على أي حال، إن تسويق توجّهات الرئيس ميقاتي في الشارع السنّي ستواجه صعوبات جمّة، لكن الخطاب المشحون لبعض قوى 14 آذار، والداعي إلى الصدام مع حزب الله وأنصاره ومع سوريا وحلفائها لا يروق شريحة واسعة من السنّة، وخصوصاً أصحاب المصالح الاقتصادية والحيوية. ولا ينظر هؤلاء إلى ميقاتي بعين يزيد احمرارها على المستوى الذي يتمناه سعد الحريري وأزلامه.
يفترض أن يتعامل الرئيس ميقاتي مع قضية المحكمة الدولية انطلاقاً من إعلان الثوابت الثلاث الآتية:
1ـــــ إن جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري هي قضية وطنية لا يجوز التراجع عن تحقيق العدالة فيها.
2ـــــ لا تراجع عن الاقتصاص من قتلة الحريري أياً كانوا.
3ـــــ على الآلية القضائية المعنية بقضية اغتيال الحريري أن تكون فعّالة ونزيهة ومستقلّة.
وبما أن أوساطاً واسعة في لبنان، وخصوصاً بين السنّة، تُجمع على ضرورة المحكمة الدولية بسبب عجز القضاء المحلي عن تحقيق العدل، فعلى ميقاتي مهمة إقناع هؤلاء بوجوب مجرّد التدقيق في حسن سير العدالة الدولية، وذلك حرصاً على الثوابت الثلاث الآنفة الذكر. وفي هذا الإطار يمكن الرئيس ميقاتي، بعد تكليفه للحكومة وتأليفه إياها، أن يؤلف لجنة عليا تضمّ وزير العدل ويدعو رئيس مجلس القضاء الأعلى وأعضاءه ورئيس مجلس شورى الدولة وأعضاءه ونقيبي المحامين في بيروت وطرابلس للانضمام إليها، وذلك بهدف تأليف هيئة استشارية قانونية عليا وعقد مؤتمر عام في السرايا الحكومية لبحث قضية تحقيق العدالة في جريمة اغتيال رفيق الحريري والجرائم الأخرى.
تضع اللجنة الوزارية العليا التي يترأسها ميقاتي برنامج المشاورات القانونية، وتطلق الدعوات إلى مؤتمر السرايا العدلي المغلق الذي يفترض أن تصدر عنه توصيات مبنية على:
أولاً، «أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية» كما ذكر نصّ القرار 1757 الذي أُنشئت المحكمة الدولية على أساسه. إذ يفترض أن يعمل فريق التحقيق الدولي بحسب تلك المعايير، كما يفترض أن يتناسب تعيين القضاة والموظفين معها.
ثانياً، السيادة الوطنية والحفاظ على المصالح اللبنانية العليا والعيش المشترك. إذ يطلق رسمياً على المحكمة الدولية تسمية المحكمة الخاصة بلبنان (أو للبنان). وقد يستدعي ذلك توسيع صلاحياتها لترتقي إلى تسميتها.
ثالثاً، التحقيق في جميع الاحتمالات، بما فيها احتمال ضلوع إسرائيل أو دول أخرى وأحزاب وتيارات، مهما تكن، في جريمة اغتيال الرئيس الحريري. فكما استُدعي مسؤولون سوريون ومسؤولون في حزب الله للاستماع إليهم بصفتهم شهوداً، يفترض استدعاء مسؤولين إسرائيليين وأميركيين وفرنسيين وبريطانيين. هذا ما تقتضيه التحقيقات الجنائية المتوازنة والمسؤولة.
رابعاً، حماية لبنان من أي تدخّل استخباري أجنبي في عمل المؤسسات المعنية بشؤونه، وخصوصاً القضائية، محلية كانت أو دولية.
وبانتظار انعقاد المؤتمر العدلي العام وصدور التوصيات الاستشارية عنه، يمكن أن يتخذ مجلس الوزراء قرار تعليق العمل بالبروتوكولات الثلاثة التي تنظّم التعاون مع المحكمة الدولية، ويمكن أن يطلب المجلس كذلك من القضاة اللبنانيين الحضور إلى بيروت للمشاركة في المؤتمر العدلي العام. ويرسل الرئيس ميقاتي كتاباً إلى رئيس المحكمة الدولية القاضي أنطونيو كاسيزي في هذا الإطار يشرح فيه الوضع الدستوري القائم في لبنان، وأن أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت نوّاب الأمة إلى تسميته رئيساً لمجلس الوزراء هو معالجته للخلافات الداخلية الحادّة بشأن المحكمة الدولية. ويوضح ميقاتي لكاسيزي أن المؤتمر العام في السرايا ينعقد خدمة للعدالة وتسهيلاً لتحقيقها. ويطلب ميقاتي كذلك من كاسيزي إيداع الأمين العام للأمم المتحدة كتابه بعد إضافة ملاحظاته عليه.
ولا بدّ من أن يضع مؤتمر السرايا خطّة شاملة لإصلاح نظام العدالة في لبنان وإنهاء مرحلة الإفلات من العقاب. ومن بين المحطات الإصلاحية الأساسية:
ـــــ تعزيز كفاءة النيابات العامة وتطوير كليات الحقوق ومعهد القضاة ومصلحة الطب الشرعي والمباحث الجنائية العلمية. ـــــ تكريس النزاهة عبر تفعيل التفتيش القضائي ورفع الرواتب وتوفير لوازم القضاة والموظفين واعتماد الشفافية، وتثبيت الاستقلالية عبر إعادة النظر في آلية تعيين القضاة ووضع ميثاق شرف لعدم التدخّل في عمل القضاء.