يطغى التشاؤم على حديث الأهالي في البقاع عن إمكانية محاسبة «شبكة» من التجار في المواد الغذائية الفاسدة، وتجار ألبان وأجبان فاسدة ومزورين في مدد «المعلبات» وصلاحياتها، وبيعها في المحال و«السوبرماركات».القصة بدأت في 19 أيار من العام الماضي، في أحد معامل المخللات في البقاع، وصولاً إلى مستودعات في جلّ الديب وبيروت. أوقف متهمون بالمشاركة في هذه الجريمة، وتوسّعت التحقيقات لتطاول عدة فروع ومناطق. لكن آمال البقاعيين عادت وانفرطت، إذ أُفرج عن المتهمين بالتزوير والمتهمين بكونهم مسؤولين عنه مباشرةً، وذلك خلال ساعات تلت التحقيق معهم لدى قاضي التحقيق في زحلة.
عملية الإفراج هذه، لم تتبعها شروحات تقنع الأهالي بأن الشبكة التي أوقف أعضاؤها بريئة. وما زاد الطين بلّة هو إحساس الأهالي بأنهم باتوا أسرى الغشّ الذي تمارسه عليهم بعض محطات الوقود، والتلاعب بالأسعار على يد بعض أصحاب السوبرماركات في البقاع.
«لمين بدّي اشتكي، إذا اشتكيت بصير أنا المجرم والغشاش هو المغبون»، كلمات رددها ح.ن، الذي تعرض للغش من إحدى كبرى المؤسسات التجارية في البقاع التي تعتمد أسلوب «الفوترة عن طريق الأرقام المتسلسلة للحاسوب الإلكتروني». يروي الرجل الطريقة الجديدة المعتمدة حديثاً: «كعادتي مع بداية الشهر، حين أتقاضى راتبي أشتري كمية من المواد الغذائية، والمنظفات وغيرها من مستلزمات منزلية تكفي لباقي الشهر. قبل أن أقرر شراء السلعة أنظر الى سعرها، فإذا أعجبني أحملها»، بالطبع فإن هذه الطريقة يعتمدها الآلاف من اللبنانيين الذين ينظرون الى «التسعيرة» المحددة من إدارة المحل. يتابع الرجل كيف اكتشف أنه يتعرض وباقي الزبائن للغش أثناء الحساب، ولا ينتبه الى ذلك هو وغيره، «بعد ما اشتريت من السوبرماركت البضاعة، رحت عالبيت، ومن باب الفضول، وانا أراجع الفاتورة تبين لي أن سعر علبة الذرة المبردة 4000 ليرة، فيما التسعيرة تقول إن ثمنها 3000 ليرة، صرت أدقق أكثر بالفاتورة فتبين لي أن هناك أكثر من أربعة أصناف من المعلبات مسعرة بشيء وثمنها وقت الدفع أغلى بخمسمئة ليرة أو بألف».
لا ينفي الرجل أنه تردد قبل الاتصال بمصلحة حماية المستهلك على خطها الساخن. أما السبب فليس مرتبطاً بالمصلحة نفسها، أو بأدائها بل لأنه لا يؤمن «بأن القضاء اللبناني يعطيني حقي، بعدما أفرج عن مجموعة كبيرة من المزورين وتجار مواد غذائية فاسدة». ح. ن.، عاد واتصل بالمصلحة بعد إلحاح زوجته، لكنه أُصيب بخيبة مرة أخرى «وما شفنا إنو السوبر ماركت حدا جازاها».
رواية ح.ن، لا تختلف عن رواية وسيم الذي اكتشف أن بعض محطات الوقود البقاعية تتلاعب في عدّادها في ظل حاجة المواطن الملحّة الى مادة المازوت للتدفئة. ويحكي كيف اكتشف عملية الغش في العداد، من غالون سعته عشرة ليترات، فإذ به يفاجأ بأنه ينقص «نحو ليتر، عن سعته، وذلك من إحدى المحطات في شتورا». لهذه الغاية قصد محطة أخرى فوجد أن عدّادها يختلف عن الاثنتين. فقرر الاتصال عبر الخط الساخن بمصلحة حماية المستهلك.
مفتش في مصلحة الاقتصاد ـــــ دائرة حماية المستهلك، لم ينف لـ«الأخبار» أن موظفي المصلحة قصدوا عدداً من المتاجر الكبيرة (سوبرماركت) في البقاع، وتبيّن أن الشكوى صحيحة، وأن بعضهم يعتمد أسلوب التلاعب بالسعر: «السعر الظاهر على السلعة يكون لجذب المستهلك، وعند الحساب يكون السعر مختلفاً كلياً، نادراً ما تجد مواطناً لبنانياً يلحظ هذه المخالفة، وإن لاحظ فلا يراجع فيها». على أثر الزيارات نُظّمت محاضر ضبط بكل مؤسسة تغش، وأحيلت الى القضاء المختص للنظر.
عن دور القضاء في مثل هذه المخالفات، قال المفتش إن القضاء لا يصدر أحكاماً سريعة، يضيف «قبل سنة ونصف السنة نظّمت 20 محضراً بمخالفات متعددة بشأن بيع مواد غذائية فاسدة ومنتهية الصلاحية والغش في الأسعار وفي عدّاد محطات الوقود، وحتى الآن لم يصدر أي حكم فيها». أما في ما يتعلق بمسألة الغش التي تعتمده بعض محطات الوقود في عدّاداتها فقال «نقوم بدوريات مفاجئة على المحطات، نجد الجزء الأكبر منها قد نزع الرصرصة» ـــــ إشارة تضعها مصلحة حماية المستهلك في المكان الذي منه يجري تغيير ترقيم التسعيرة والكمية ـــــ يتابع المفتش: إن انتشار الغش في غالبية المحطات يعود سببه لأحكام القضاء بالغرامة المتدنية على «الغشاشين» حيث لا تتجاوز الـ150 ألف ليرة.
يرد موظف مصلحة حماية المستهلك تفشي الرشوة عند موظفي المصلحة، الى أحكام القضاء في هذه الحالات، ولكون غالبية هذه القضايا التي تخص المستهلك تخرج من دون محاكمات جزائية تقضي بالحبس او بالغرامات المالية الرادعة، «ما تنسى حاجة المصلحة الى موظفين ومفتشين، في جميع المناطق اللبنانية».



وقائع مستعادة لضبط بالجرم المشهود

في 19 أيار من عام 2010 ، ضُبطت عملية تزوير تواريخ لمعلّبات منتهية الصلاحية في أحد معامل المخللات والمعلبات في البقاع، أوقف على أثرها عمال ثلاثة، والمدير، بعدما ضُبطوا «بالجرم المشهود»، وصودرت المعلبات وأختام التزوير التي كانت تستعمل في العملية. أكد مسؤول أمني لـ«الأخبار» حينها، أن الكمية المصادرة «كبيرة جداً»، وبعدها أجري التحقيق مع صاحب المعمل الذي بينت التحقيقات معه ومع الموقوفين أنه على علم بالأمر، وأوقف أصحاب مؤسسات ضخمة، سرعان ما أفرج عنهم بسندات إقامة وقفل الملف نهائياً.
يُشار أيضاً إلى أنه قبل شهرين، اشُتبه في ورشة يعاد فيها تعليب الألبان والأجبان الفاسدة أو المنتهية صلاحيتها لتوزع من جديد على المستهلكين، لكن هذه القضية طواها النسيان.

لقطة

«استغلال المستهلك» يبدأ من الغش بالأسعار، إلى التلاعب بتواريخ الصلاحية، والاتجار بالمواد الغذائية الفاسدة، والسرقة بالمكيال. كرة ثلج تكبر يوماً بعد يوم، مع غياب الرقابة الدقيقة والحساب والعقاب، وما «يغذّيها» نتائج أحكام القانون اللبناني، بعدما أمسى العقاب أهون من التخلّي عن أرباح العمل بها، و«العبرة» من الحكم فيها لم تعد رادعاً «لمن لا يعتبر»، كلمات يرددها أهالي البقاع، الذين باتوا يعلنون معاناتهم من ضروب الغش التي لا تنتهي، وكلما اكتشفوا طريقة، يلجأ التجار إلى أسلوب آخر. أكثر ما يخيف الأهالي في تلك المنطقة هو الشعور بأن الغشاش لا يحاسَب أو أن الغرامة التي تفرض عليه لا تمثّل عائقاً يمكن مقارنته بالأرباح التي يجنيها من خلال عمليات التلاعب بالأسعار.