قونيا | في المدينة التركية قونيا، ينطبق المثل الشعبي القائل «الأموات يديرون العالم أكثر من الأحياء». فهذه المدينة التي تحتضن مقام مؤسس الطريقة الصوفية المولوية الشيخ محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين المعروف بـ«مولانا» جلال الدين الرومي تحولت إلى مركز حجّ يؤمّه الملايين من أرجاء الأرض كل عام. تحول جعل من هذا الشيخ المتوفى في 17 كانون الأول 1273 «المدير» الفعلي لقونيا.في عام 1207 وُلد جلال الدين الرومي في مدينة بلخ في أفغانستان، التي نُسِبَ إليها كبار العلماء والفلاسفة والفقهاء، كالفردوسي وابن سينا والغزالي. وفي سنة 1219 غادر والده بهاء الدين ولد، الملقب بـ«سلطان العلماء» المدينة هرباً من الغزو المغولي القادم من الشرق. وبالفعل دمر المغول المدينة بعد عام وأتوا على تراثها. بعد رحلة واسعة على عدد من مدن العالم الإسلامي، استقر والد جلال الدين في قونيا عام 1226، التي جاءها بدعوة من السلطان السلجوقي علاء الدين كيكوباد، فوجد فيها الحماية والرعاية، واختير للتدريس في أربع من مدارسها حتى توفي سنة 1231.
وقد عرض كيكوباد على جلال الدين، الذي خلف والده في التدريس، أن تكون حديقته المليئة بالورود مكاناً لدفن والده فوافق، لكنه رفض طلب مريديه جعل قبر أبيه مكاناً للزيارة. وعندما توفي جلال الدين دُفن أيضاً في الحديقة قرب أبيه، قبل أن يقرر نجله حسام الدين المعروف باسم «سلطان ولد» بناء ضريح فوق قبر والده وجعله مكاناً للزيارة ولنشر الطريقة المولوية التي أسسها جلال الدين، والتي اشتهرت بدراويشها ورقصتهم الدائرية (المولوية).
وما يُميّز المقام إلى جانب مئذنته ذات الطابع المعماري العثماني، والفسحات المحيطة به، قبّته الخضراء المزخرفة بخزف فيروزي، والتي بُنيت فوق أربعة أعمدة شيّدها عام 1274 المعمار بدر الدين التبريزي مقابل 130 ألف درهم سلجوقي، قبل أن يُضاف إليه عام 1854 العديد من الأقسام.
بعد سقوط السلطنة العثمانية وإلغاء مصطفى كمال الخلافة عام 1923، عمد أيضاً الى إلغاء كل الزوايا والتكايا والطرق الصوفية وحوّلها إلى متاحف، فتحول مقام الرومي عام 1926 إلى «متحف العصور القديمة لقونيا»، قبل أن يأخذ عام 1954 اسمه الحالي «متحف مولانا» (بالتركية: Mevlana Müzesi).
أهمية المتحف ـــ المقام في استقطاب الزوار والسياح يوضحها المدير الحالي للمتحف ناجي بقرجي، بقوله إنه «خلال فترة الاحتفالية السنوية التي تقام من 7 إلى 17 كانون الأول (ديسمبر) من كل عام، يأتي إلى قونيا 300 ألف زائر، فيما يصل عدد الزوار السنوي إلى مليونين، ما يجعله يحتل المرتبة الثانية بعد متحف توبي كابي في إسطنبول».
«لا يحتل العرب مرتبة متقدمة من زوار مقام الرومي» حسب بقرجي، لكن اللافت أن الإيرانيين يأتون بين أول خمس دول يزورون قونيا سنوياً، وذلك لأنهم يعتبرون الشيخ جلال الدين ذا أصول شيعية، و«خصوصاً أن مؤلفاته (أشهرها المثنوي) كتبت باللغة الفارسية»، كما يقول تونجاي كارابوت من مديرية الإعلام والصحافة والنشر في قونيا.
المقام الذي كتب على بوابته الرئيسية «يا حضرة مولانا»، ترتفع فوق بوابته الداخلية عبارة «كعبة العشاق»، حيث يزدحم الزوار وسط روائح البخور وصوت الموسيقى. ولا يكادون يمرّون أمام قبر الرومي حتى يخيّم عليهم خشوع لافت، فيتلون الفاتحة وآيات من القرآن وهم يبكون، ثم يجولون في أرجائه التي تضم مصاحف ومخطوطات تاريخية، في ظل إجراءات أمنية تمنع التصوير.
في مركز مولانا الثقافي القريب من المقام الذي تتسع قاعته لـ 2600 شخص تمتلئ بكاملها، تقوم الفرقة المولوية بعرض الفتلة المولوية. وكان الشيخ جلال الدين الرومي هو من أسّس، ما يعرف بالرقص الدائري لساعات طويلة. يقوم مبدأ الرقصة على أن يقف الشيخ في وسط الدائرة ويصطف حوله الراقصون، وتبدأ الأغاني التي يدور الراقصون على إيقاعها بشكل دائري، وهم يعتقدون بأن هذه الرقصة الدينية تدخلهم في مشاعر روحية سامية ترقى بنفوسهم إلى مرتبة الصفاء التي تبعدهم عن العالم المادي، وتأخذهم إلى الوجود الإلهي.
وتعتبر الجهات الرسمية التركية الرقصة المولوية من الفولكلور، وعادة ما يحضر رئيس الحكومة وكبار الزوار افتتاح الاحتفالية المولوية السنوية.