في قاعة المحاضرات في متحف الجامعة الأميركية في بيروت، جلس الحضور مشدودين إلى الشاشة المعلّقة التي تعرض صور الاكتشاف الأثري الذي قام به فريق المتحف الصيف الماضي في مدينة صور. الاكتشاف جاء على أثر «حديث لمسؤول الآثار في منطقة صور علي بدوي»، تقول مديرة المتحف والبعثة الدكتورة ليلى بدر. فهذا المسؤول «أطلعني على اكتشاف تم في الموقع في سبعينيات القرن الماضي، ولم يكشف أو يعرف عنه شيئاً». وتضيف: «كان علي بدوي في حينها قد لاحظ الطبقة العليا من المبنى، التي كانت تشبه معبداً فينيقياً، فطلبنا منه العمل عليه، ووصل الفريق إلى الموقع الذي كان يغطيه القصب بعلو أربعة أمتار، وبدأ بالتنظيف، وما هي إلا أيام حتى برزت أمام أعيننا جدران وأرضية».
بعد الاكتشاف ودراسته، تسمح بدر لنفسها بالجزم أن «المبنى هو فعلاً معبد فينيقي يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد». كان الوصول الى هذه المعلومة صعباً نسبياً «بسبب عدم العثور على قطع أثرية في الموقع، فالمدير العام السابق للآثار الأمير موريس شهاب كان قد أنجز حفريات في هذا الجزء من موقع صور البحري سنة 1973، ونقل في حينها كل القطع المكتشفة إلى مخازن صور، ولم يعلن عن اكتشافه الأثري لأحد، ولم يوثقه أو ينشره كما هي العادة، بل أبقى الموضوع سراً، واكتفى بذكره في مؤتمر في روما قائلاً إنه عثر على مبنى فينيفي».
الغموض الذي لفّ اكتشاف المبنى ومصير القطع أجبر فريق العمل على اعتماد مقاربات في الأشكال الهندسية لتحديد هويته وتاريخه. وعلى هذا الأساس، تم «رسم» التصورات، وتقول بدر إن «أولى الغرف المكتشفة هي غرفة الصلاة التي يصل طولها إلى 20 متراً وعرضها إلى 6.50، وأرضها مغطاة بالحجارة الرملية المنحوتة بشكل مستطيل، وتتصل غرفة الصلاة بالمنصة التي يصل علوها إلى مترين والتي كان يرتفع فوقها المذبح». وفي الصور التي تم عرضها على الشاشة أيضاً، تبرز غرفة صغيرة ملاصقة للمنصة مليئة بالرماد، وغطّى سواد النار جدرانها. وقد عمل بعض أعضاء الفريق على نخل الرماد لمعرفة ما يحتويه، فعثروا على بقايا عظام حيوانات. وبحسب بدر «هي بقايا عظام أسماك وأغنام وماعز تم ذبحها على هذا المذبح، وكان جزء منها يحرق في هذه الغرفة الصغيرة كقرابين تقدم للآلهة». لكن مع كل هذه الاكتشافات، لم يعثر الفريق على «الدرج الذي كانوا يستخدمونه لوضع الحيوانات على المذبح، ما يفرض نظرية أنه كان مصنوعاً من الخشب، وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن الحيوانات التي كانت تقدم لم تكن كبيرة الحجم».
تجدر الإشارة إلى أن «غطاء المذبح الصخري متموج الوجه وذلك لتسهيل إخلاء الدم عند الذبح».
وخارج إطار غرفة الصلاة، عثر العلماء على ثلاثة أحواض دائرية صغيرة مرتبطة بعضها ببعض، وهي «تأكيد آخر على أن هذا المعبد فينيقي لأن هؤلاء يشتهرون بهندستهم للمياه في معابدهم، فالتطهير كان من الطقوس الأساسية قبل دخول المعبد».
لكن، بما أن الفريق لم يعثر على قطع أثرية أو كتابات، فقد استحال عليه تحديد الإله الذي أقيم له المعبد، «كما أن صغر حجم المقام يرجح بأنه ليس معبد الإله ملكارت الذي سكّت صورته على عملات صور الفينيقية».
وتضيف بدر إن الدراسة الأولية التي تمت للمعبد «قارنها الفريق مع معبد عمريت في سوريا الذي يرتفع المذبح فيه فوق منصة شبيهة بتلك المكتشفة في صور، وكذلك طريقة رص الحجارة على الأرض المصممة على الجوانب من دون أي خليط رملي وبشكل هندسي: حجران أفقيان يليهما حجران عموديان، وهي تقنية فينيفية بامتياز». والجدير ذكره أن هذه التقنية «تعطي لأرضية المعبد تقسيماً زخرفياً جميلاً وبسيطاً في آن». مع ذلك، لم تكن هذه المكتشفات «كافية للتأكيد العلمي».
من جهة أخرى، تشير بدر إلى أن «الفريق اكتشف في آخر أيام العمل زخرفة واسعة منحوتة على حائط المنصة الخلفي، وهي ذات طابع مصري فرعوني كانت مستعملة كثيراً في تزيين منصات المعابد، تماماً كما في موقع عمريت، وهي فرعونية الشكل، لكنها تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، أي الفترة المعروفة بالفارسية لأن المنطقة كانت تحت النفوذ العسكري والسياسي الفارسي».
وأنهت بدر محاضرتها بأن كل هذه الفوارق تؤكد أن المبنى الذي أعيد تسليط الضوء عليه في موقع صور هو أول معبد فينيقي كامل الأجزاء في لبنان، وأول معبد فينيقي في صور.