قطنا السورية من أكبر المدن في فترة العصر البرونزي (3500 -1200 ق.م)، تمتد على مساحة 30 هكتاراً، وتحيط بها خنادق وأسوار ترتفع أربعين متراً، وتتوسطها ثلاثة قصور ملكية ضخمة. وقد اكتسبت المدينة دوراً تجارياً مهماً عبر التاريخ بسبب محاذاتها للبادية والسهول الخصبة التي تحيط بها ولموقعها على طريق القوافل. وفي عام 2000 ق.م تحولت من مدينة دائرية إلى مدينة مربعة ضخمة تتوسطها المدينة الدائرية التي كانت القلب السياسي للمدينة الجديدة، حيث القصور الملكية والمعبد وقاعة الأرشيف.
هذا بعض ما ورد في محاضرة مدير الحفريات الأثرية في سوريا الدكتور ميشيل المقدسي تحت عنوان «قطنا: كنوز عاصمة في سوريا الوسطى خلال العصور القديمة»، بدعوة من المعهد الفرنسي للشرق الأدنى.
ولفت المقدسي، المسؤول عن موقع قطنا أو تل المشرفة، إلى أنّ البعثات الأثرية المتعاقبة على الموقع منذ 1924 كشفت كل أجزاء القصر الملكي الكبير، وهو مبنى بطول مئة متر وعرض 45 متراً ويتألف من ثلاثة أقسام: القسم العام والباحة الكبيرة والقسم الأوسط الذي يضم قاعة انتظار وقاعة العرش التي تؤدي إلى القسم الثالث، وهو القسم الخاص بعائلة الملك. وكانت المفاجأة الكبرى عام 2009، حين عثرت البعثة السورية – الألمانية على مقبرة ملوك قطنا، وكانت لا تزال على حالها: أي كما تركت قبل 5000 عام، وهي الأولى في المشرق التي يعثر عليها بهذا النحو. وشرح المقدسي كيف سمح هذا الاكتشاف بالتوسع في معرفة الطقوس الجنائزية الخاصة بالعصر البرونزي، انطلاقاً من تحليل نمط بناء المقبرة. وأوضح: «تضم المقبرة الملكية أربع قاعات، حفرت في الصخر على عمق سبعة أمتار تحت قاعة العرش. يحرس مدخلها تمثالان لرجلين يجلسان على عرش يمثلان أرواح أجداد العائلة المالكة. ويؤدي الباب إلى صالة مربعة في وسطها أربع قواعد حجرية وعلى جوانبها ناووس حجري وبقايا أربع مصطبات. الصالة الثانية هي قاعة تحضير جثة الفقيد، وقد وجد علماء الآثار بقايا لهيكل عظمي موضوع على مصطبة حجرية تغطيه طبقة من الكلس والوحل. وكان الهدف من ذلك تسريع تحلل الجثث بحيث كانت العظام تنقل لاحقاً إلى أحد النواويس.
ورأى المقدسي أن هناك جوانب واقعية لهذا الطقس الديني «نظراً إلى أهمية طقوس الموائد الجنائزية المفروض إقامتها إلى جانب الأموات داخل القبور ولتجنيب أفراد العائلة رائحة الجثث المتحللة. لذا، كانت مثل تلك الطريقة هي الحل الأفضل». وكانت النواويس تغطى بأقمشة تزين بقلادات ذات وظائف سحرية. وأشار المقدسي إلى «أن الكنوز التي وجدت في المقبرة تشهد على غنى قطنا ونفوذها ودورها المحوري في التجارة الدولية في العصور القديمة، إذ اكتُشف إناء ذهبي وحزام ذهبي مزين باللؤلؤ ورصيعة ذهبية مزينة بحجر الكورلانين، المستورد من الهند، إضافة إلى رأس أسد نحت بالعنبر المستورد من أوروبا الشمالية. وتحفظ كل هذه المكتشفات في المتحف الوطني في دمشق».
ومن طرائف التنقيب، بحسب المقدسي، العثور على القصر الملكي الثاني فارغاً؛ إذ انطلقت عام 1360 ق.م، الجيوش الحثية (مملكة أناضولية) نحو سوريا وحاصرت ودمرت قطنا، ويبدو أن خدام القصر أفرغوه بشكل تام قبل دخول الحثيين إليه! هكذا، لم تستطع قطنا أن تستعيد مكانتها بعد هذا الغزو إلاّ جزئياً نحو عام 950 ق.م مع تأسيس مملكة آراميا في المدينة التي دمّرها الآشوريون بنحو تام عام 720 ق.م.
وفي نهاية عرضه، وككاهن في معابد قطنا، رفع المقدسي كلاماً بمقام صلاة، مستنزلاً الحماية الإلهية على سوريا وشعبها ومواقعها الأثرية.