في الأشرفية، في منطقة صوفيل، تم العثور على أقدم منزل في بيروت. ففي المنطقة التي تتنازع فيها الأطراف حول أهمية المحافظة على تاريخ العاصمة وهويتها، عثر علماء الآثار على أقدم منزل مشيّد بالحجارة يعود تاريخ بنائه الى الألف الرابع قبل الميلاد. وتشرح البروفسورة كورين يزبك اختصاصية في فترة ما قبل التاريخ «أن المبنى المستطيل مشيد بطريقة ذكية. فهو مبني بالحجارة الصخرية، وما بقي من الجدران يرتفع الى أقل من متر، وكان سقفه يرتفع على سقالات خشبية مع عمود وسطي، عثر العلماء على ركيزته في أرضية البيت المصنوعة من التراب المرصوص». وتقول يزبك إن الحفريات في الموقع تمت بإدارة هادي شويري وبإشراف المديرية العامة للآثار، والدقة في العمل سمحت بفهم الاستعمالات المختلفة للغرفة، إذ إن إحدى الزوايا كانت تستعمل لصقل الأحجار الصوانية، أما في الزاوية المقابلة لها فقد بني فرن لطهو الفخار، وفي جهة أخرى عثر العلماء على كمية كبيرة من قطع الفخار المكسورة وأحجار صوانية مختلفة الأحجام.
فهل كان هذا البيت يستخدم لصنع الفخار ويزين بطريقة شق الإشكال عليه قبل طيه؟ سؤال لا تستطيع يزبك أن تؤكده أو تنفيه، لكنها تشرح أنه في لبنان وحتى الساعة لم يعثر إلا في موقعي جبيل والدكرمان على بيوت من هذه الفترة. لذا، فهذا الاكتشاف يضع بيروت على لائحة مواقع السكن الأولى على الشاطئ اللبناني ويعطيها بعداً تاريخياً جديداً. وأتت الاكتشافات في مواقع أخرى لتثبت أهمية العاصمة. ففي تقاطع بشارة الخوري، عثر فريق آخر من علماء الآثار على بقايا مسكن يعود تاريخه الى 7000 سنة. وتقول يزبك «خلال هذه الفترة، كان الإنسان قد بدأ بالاستيطان وبناء البيوت وتدجين الحيوانات. وما عثر عليه الفريق (الذي كان يديره فادي بعينو) هو بقايا مسكن للرعيان الذين لم يبنوا المنزل بالأحجار بشكل هندسي كامل، بل بالاستعانة بالأخشاب. وبالقرب من مقرهم حفروا في الأرض وأقاموا فرناً، وكانوا يأكلون الأغنام والماعز والبقر... كما تبين من دراسة العظام المكتشفة في الموقع». وعلى بعد أمتار قليلة من مسكن الرعيان، اكتشف العلماء مقبرة لشاب تعود الى الفترة نفسها حفرت في الرمل، لكنهم لم يكملوا التنقيب فيها لأنها تمتد تحت الجامع المحاذي للطريق العام.
وتقول يزبك إن غنى العاصمة بالآثار التي تعود الى فترة ما قبل التاريخ لا يتوقف على هذين الموقعين وفترة الاستيطان، بل يعود الى بداية فترة ما قبل التاريخ، أي 600.000 سنة التي كانت مكتشفات الآباء اليسوعيين قد برزتها في رأس بيروت، لكن حفريات الإنقاذ المنتشرة في كل أرجاء العاصمة باتت تسمح لنا بتصور فترة ما قبل التاريخ على امتداد بيروت وضواحيها. فمنطقة الوسط التجاري مثلاً كانت مركزاً للإنسان الصياد قبل 250.000 سنة، فترك أحجاره الصوانية بكميات كبيرة فيها، ما يعني أنها كانت مأهولة وبكثافة. وفي منطقة الجميزة، في منطقة كانت قريبة من مجرى للمياه، عثر فريق من العلماء على مركز لصقل أحجار الصوان استخدمه الإنسان قبل 90.000 إلى 50.000 سنة وترك في أرضه كل القطع التي لم يكن يريدها... أي ما يقارب 500 قطعة من الصوان استطاعت يزبك أن تربطها بعضها ببعض وأن تعيد تركيبها بالنواة الحجرية التي حفرت منها. أهمية الاكتشاف وغناه بالقطع الصوانية كانا كافيين لتحفيز الطالبة ماريا شوبح، التي كانت تدير الحفرية مع رولا رعيدي، على دراسة الموقع والقطع المكتشفة في رسالة دراسات عليا.
وتقول يزبك إن أهمية مركز صقل الصوان في الجميزة لا تقتصر على القطع المكتشفة، بل لأنها تسلط الضوء على فترة تعايش جنسين بشريين، هما: الإنسان العاقل وإنسان النيندرتال الذي انقرض لاحقاً. وهذا ما تبيّنه القطع الصوانية المكتشفة، التي تميز كلاً منهما، والمعروف بأن هذين الجنسين مختلفان من حيث الشكل والمأكل والحياة. لكن الترسبات العالية الأكسدة في العاصمة لا تسمح بالحفاظ على بقايا عظمية لهذه الأجناس. لكن يبدو أن بيروت عرفت التعايش منذ فجر فترات ما قبل التاريخ! وتحاول يزبك أن تصف بيروت في فترة ما قبل التاريخ، فتقول: «كان مستوى الأرض منخفضاً بعشرين متراً تقريباً عن العلو الحالي، وكانت المنطقة خضراء (ربما ليس بالأشجار) وكثيرة الينابيع والمجاري المائية وتكثر فيها الحيوانات وتنتشر أحجار الصوان على شاطئ البحر. فكان الإنسان القديم يجد فيها كل ما يطلبه. كانوا يتحركون كمجموعات، بحثاً عن الصيد والمأكل والملبس... وكثرة القطع الصوانية تشير الى كثرة المجموعات التي كانت تتنقل. وحينما عرف الإنسان الاستيطان، بنى في بيروت مسكنه ودفن أحباءه... وتقول أن الاكتشافات في عقارات صغيرة كهذه إنما هو دلالة على الانتشار الواسع للسكن في هذه الفترة».
لم تكن بيروت تشكل فاصلة في دراسات فترات ما قبل التاريخ لأن ما كان معروفاً عن تاريخها لم يكن يعطي صورة واضحة لتطور الحياة عليها. لكن الاكتشافات المتتالية التي تنجزها الفرق بإشراف المديرية العامة للآثار بدأت توضح هذه الصورة وتضع العاصمة على خريطة عالمية جديدة. ويقول الدكتور أسعد سيف إن المديرية أنهت المفاوضات مع صاحب العقار وبيت العصر الحجري المكتشف في الأشرفية، وسيتم إبرازه في العقار لأنه يعطي لزائر العاصمة قدرة على رؤية فترة ما قبل التاريخ.