العلاقة بين الشاشة الكبيرة والتاريخ ليست وديّة دائماً. فهدف السينما، وخصوصاً هوليوود وأتباعها، تجاري أولاً وفني ثانياً. هكذا، يستخدم التاريخ وتسخّر الأحداث والوقائع لـ«إبداع» المخرجين لأهداف سياسية. حتى اليوم، لم تستعن السينما بالتاريخ إلا لإبراز خلافٍ ما أو حلّه، أو لتصوير الماضي بصورة دعائية بحتة، ولا سيما الأفلام التي تتطرق إلى شخصيات العهد القديم. لكن ما يميّز هذه الأفلام قوة الإخراج وفن التصوير والملابس والدقة في تفاصيل الديكور لدرجة يتناسى معها المشاهد الأخطاء التاريخية، فيطغى الشكل على المضمون. وأصبح العديد من الأفلام التاريخية من «كلاسيكيات» السينما مثل موسى، وجودا بن هور، وكيلوبترا...
إلى ذلك، عملت السينما الأميركية منذ أكثر من 3 عقود على «تدجين» المشاهد على المسائل التاريخية بالصورة التي تريد أن تبرزها. ولم تتأخر يوماً عن تغيير الوقائع التاريخية، وتبديل هوية الأبطال وجنسياتهم للتماشي مع متطلباتها. وبذلك دخل التاريخ في متاهات السياسة والتسويق والترويج لأفكار ومبادئ معينة. ولم تمض سنوات قليلة حتى انتقلت العدوى إلى دول أخرى. ها هم «السلاطين الجدد» في إسطنبول يريدون أن يبرزوا تركيا التي يرفض طلب دخولها إلى المجموعة الأوروبية باعتبار أنّها أرض وشعب وتاريخ ينافس أوروبا بالأصالة والحضارة والاحترام للآخر منذ نشأتها. البداية كانت مع المسلسلات التاريخية (حريم السلطان)، والخطوة الثانية كانت سينمائياً مع فيلم «الفاتح». الأخطاء التاريخية في الفيلم ليست ناتجة من هفوات أو قلة دراسة لحضارات تلك الحقبة، بل أتت لأسباب وغايات سياسية بارزة. فلو ظهر الفاتح بصورة المحارب لإمبراطورية تعيش أيامها الأخيرة، لما كان لفتوحاته معنى كبير... لذا، كان من الضروري أن تبرز القسطنطينية بعهدها الذهبي. فكلما كبر العدو، كان لقتله معنى أكبر. ولكي لا يكون القتل من دون رحمة، واحترام... كان لا بد من تحويل التاريخ مجدداً. فمحمد الثاني يبرز في الفيلم بصورة الإنسان اللطيف، لكنه لم يكن يوماً لطيفاً، فليست هناك نقاط مشتركة بين اللطف والفتح. هو قائد جيش من 80 ألف مقاتل دخلوا الصراع للسبي والسرقة ومن ثم استباحة الممتلكات. تلك هي شروط الحروب أيام العثمانيين، والفاتح لم يكن ليغيرها رأفة بأطفال ونساء من الأعداء.
لكن، كيف يبرز فاتح السلطنة العثمانية بصورة غير مرحب بها في الغرب الديموقراطي؟ هل يمكن تاريخ السلطنة أن يكون دموياً وغير إنساني؟ هذه الصورة لا تتماشى أبداً مع عملية الترويج لأيام السلطنة الذهبية. وبما أنّ أبطال هوليوود دائماً إنسانيون، لا بد أن يكون محمد الثاني لطيفاً والفتح ليس إلا معركة محقة. في إسطنبول اليوم، الماضي سلعة لتسويق السلطنة لإعادة أمجادها. وليست السينما سوى وسيلة لتحقيق هذا الهدف. فجريدة الزمان التركية علقت على الفيلم بعبارة «الأتراك أباطرة من جديد».