لا يزال فريق بعثة المتحف البريطاني في صيدا يعمل على فك الكتابة الفينيقية المكتشفة خلال تنقيبات هذه السنة في موقع الفرير في صيدا. وكانت البعثة قد أنهت عملها للسنة الرابعة عشرة على التوالي بالتعاون مع المديرية العامة للآثار، وعثرت على مقتنيات تسلط الضوء على وجوه عدة من الحضارة الفينيقية.
فعلى النطاق الديني، اكتشف العلماء صحناً من الفخار كتبت عليه كلمتان من عشرة أحرف يقرأ منها: م، ذ، ب، ح، وأمامها حرف ت، وبعدها حروف ع، ب، د. وتوضح الدكتورة كلود ضومط سرحال، مديرة بعثة المتحف البريطاني أنه يمكن قراءة هذه الأحرف على النحو الآتي: «مذابح» ومن بعدها اسم واهب الإناء «عبد لـ»، والعمل جارٍ حالياً لقراءة بقية الأحرف من الكتابة وتحديد هوية الإله الذي كتب اسمه على الإناء.
وأهمية الكتابة تكمن في أنها لم تحفر على مذبح حجري، بل كتبت على صحن من الفخار، ما يعني أن مثل هذه الصحون كانت تستعمل لتقديم القرابين للإله، فيرفعها المتعبد الذي كتب اسمه على الصحن. وهذا اكتشاف مهم بسبب ندرة العثور على كتابات فينيقية، وخصوصاً تلك التي تشرح الديانة وطرق العبادة؛ لأن مكتشفي الأبجدية كانوا يكتبون على ورق البردي الذي تتلفه الرطوبة، لذا بقيت شعائرهم ومعتقداتهم غير معروفة.

ويبدو أن البعثة اللبنانية البريطانية كانت هذه السنة على موعد مع الفينيقيين. فبعد الإناء والكتابة طاولت المكتشفات الأساطير. وإحدى أهم الأساطير الفينيقية تتعلق بالأميرة أوروبا، ابنة ملك صور، التي اختطفها الإله الإغريقي زوس بعدما أغرم بجمالها. وتقول الأسطورة إن زوس تنكّر بشكل ثور أبيض سار على شاطئ البحر قرب الأميرة التي ركبت على ظهره، فاختطفها وخاض بها الأمواج إلى جزيرة كريت، وأهدى إليها القارة التي تشرف عليها فأخذت اسمها، أوروبا. وعثر فريق المتحف البريطاني في صيدا على عملة معدنيّة حفر عليها رسم لأوروبا وهي على ظهر الثور. وتلفت سرحال إلى أهمية هذا الاكتشاف؛ لأن «العثور على هذه القطعة النقدية يعطي وجهاً آخر لكمية القطع المستوردة من جزيرة كريت التي عثر عليها في صيدا». وتشير إلى أن «هذه الدلائل الحسّية تبرز العلاقة القوية بين المدينتين، وقد تسمح بإعادة النظر في أساس هذه الأسطورة، وقد يمكننا اليوم أن نقول إن الأميرة أوروبا قد تكون من أصل صيداوي وليس صورياً!».
وبما أن العلاقة بجزر الإغريق لا تتوقف على كريت، اكتشف في الموقع أيضاً إناءً فخارياً إغريقياً يذكر بتلك التحف المعروضة في أكبر المتاحف في العالم. وقد زين الإناء برسوم تجسّد خيالين في طريقهما إلى الحرب، وهما يرتديان ثياباً بيضاء ويحملان حراباً. ويعدّ وصول هذه القطعة المهمة إلى صيدا دليلاً قاطعاً على عمق العلاقات التجارية التي كانت قائمة بين صيدا ومدن الاغريق، كذلك فإنها دليل على ثراء هذه التجارة، لأن هذه القطعة ليست من المقتنيات العادية.
وتشير الحفريات ايضاً الى أن طرق البناء في هذه المدينة اختلفت عما كان سائداً، إذ تشير سرحال الى العثور، في الحفريتين، على «أساسات معماريّة فينيقيّة مدهشة وفريدة من نوعها في لبنان. فالحجارة مقطعة بشكل مستطيل متواز ومسطح، وقد استعملت لبناء الجدران وتبليط الأرضيات». علماً بأن المباني الفينيقية قليلة في لبنان، ولا تستعمل عادة طريقة بناء متقنة إلى هذه الدرجة. وكان فريق التنقيب قد عثر خلال السنين الماضية، في موقع الفرير (الملاصق للقلعة البرية في صيدا)، على جزء مهم من تاريخ المدينة الكنعاني. ففي هذا الموقع، كان سكان صيدون يدفنون موتاهم، ووصل عدد المقابر المكتشفة الى 122 مدفناً. وتوضح سرحال أن «عمليات التنقيب في المدافن ومحيطها سمحت بإلقاء مزيد من الضوء على الاحتفالات الدينية التي كانت تقام خلال الطقوس الجنائزيّة، فبات من المعروف أن الولائم كانت تقام قرب القبور بعد الدفن. وكان الحاضرون يأكلون العدس والقمح مع لحوم الحيوانات كالثور والدب والخروف. وكانت هذه المأكولات تطبخ في تنور يبنى خصيصاً لهذه الحاجة قرب القبر».
وإذا كان التنقيب حول المدافن يكشف أسرار الدفن، تبقى محتويات القبر أكبر شاهد عبر الزمن على أهمية المدفون. ففي أحد القبور عثر العلماء على ختم أسطواني ذي طابع من بلاد ما بين النهرين مع تأثير سوري في الشكل. ويجسّد الختم إله الماء يتدفق من كوعه شلال مياه، ترافقه الإلهة المشفعة «لاما» ومتعبد يتقدم نحوها. وتجدر الإشارة إلى أن العثور على الاختام الأسطوانية يندر في لبنان والعثور عليها يشير إلى أهمية هذه المدن على طرق التجارة الدولية قبل 5000 سنة.