هذه هي المرة الأولى التي يصوّر فيها مسلسل تركي ما الحياة كما يتخيلها في قصر توبكابي. ويطمح «حريم السلطان» إلى الإضاءة على الوجه الإنساني لسليمان القانوني، ويبرز دوراً لنساء الحرملك في سياسة السلطنة وفي التآمر ونصب الكمائن والشراك، في محاولة لتغيير الصورة النمطية عن حرم السلطان كمكان مخصص لإشباع شهواته الجنسية فقط. وفي الواقع، كان حرم السلطان كل ذلك في آن واحد، شأنه شأن كل بلاطات الملوك في العالم.
لكن المسلسل التركي وقع في فخ الاستسهال من الناحية التاريخية، فكانت النتيجة ابتعاده عن الحضارة العثمانية بكل تفاصيلها. فالمشاهد الذي كان يمكن أن يتعرف إلى تفاصيل الحياة أيام السلطنة وعاداتها وتقاليدها ومأكلها ومشربها وملابس أهم شخصياتها يجد نفسه يتابع قصة يمكن أن تجري في أحد قصور أوروبا. فالملابس التي ترتديها «الحريم» في المسلسل لا تمتّ بصلة إلى التقاليد العثمانية! بل هي، في الواقع، تتبع خطوط الموضة التي كانت سائدة في أوروبا القرن السادس عشر. ففي المسلسل تظهر نساء السلطان، حامي الإسلام، وقد كشفن عن صدورهن وشعورهن، فيما أيديهن عاريات حتى الزند، وتلفّ المشدّات خصورهن! أما في إسطنبول القرن السادس عشر، فقد كان الوضع مختلفاً تماماً. فالشعر، مثلاً، يُغطّى كاملاً (لا بمناديل شفافة)، وكما هي العادة في البيوت الإسلامية، لا يكشف عن الشعر إلا داخل المنازل وبعيداً عن الرجال. فيما نجد «حريم السلطان» يتمخترن أمام الانكشاريين ويتكلمن مع الرجال... علماً بأن العادة جرت أن يكون خدم الحريم من المخصيين!




ولم يكن الاحتشام في الحرملك يعني أبداً الاحتكام إلى الألوان الداكنة أو الأشكال التي تخفي شكل الأجسام، بل كان التفنن يكمن في كيفية حياكة الفستان أو البنطال لكي يبرز المفاتن من دون أن يكشفها. ويبقى التطريز سر روعة ثياب حريم السلطان في قصر توبكابي، فقد كانت خيطان الذهب ترسم على الحرير أبهى الأشكال. والملابس العثمانية رائعة الجمال، لدرجة أن عدداً من متاحف العالم استقبل مجموعات منها في معارض خاصة بها. وكانت هذه الثياب تهدف من جهة إلى لفت نظر السلطان، وإلى تثبيت سلطة المحظيات داخل الحرملك من جهة أخرى. فمن كان السلطان يغدق عليها المال، كانت تنفقه على الجواهر والملابس لإبراز حظوتها على الجاريات والمنافسات.
هذا الخطأ في المسلسل يبرز الفرق بين الإنتاجات التاريخية الأوروبية والتركية. ففيما تستعين الأولى بأهل اختصاص بالثياب القديمة (وهو اختصاص قائم بذاته في عالم المسرح والسينما) لرسم ملابس المسلسلات، ويحوكون الثياب ويصبغونها بالألوان والطرق نفسها التي كانت تستعمل قبل قرون، ارتكز «حريم السلطان» على الدراسات الأوروبية وألبس الحريم ثياباً لم تكن لهن. أما الولائم في قصور السلطنة، فقد صوّرها المسلسل في شكل هزلي؛ إذ تجلس الحريم على كراس خلف طاولات مستديرة كما لو كنّ في أحد مقاهي إسطنبول الحديثة! في حين أن تناول وجبات الطعام في الحضارة العثمانية كان قصّة أخرى تماماً؛ إذ يجلس المشاركون على أريكة واسعة وتوضع أمامهم طاولات منخفضة العلو ويُقدم الطعام في أوان خزفية تزينها الرسوم المزركشة.
«حريم السلطان» لم يكن فقط ارضاً لنصب الشراك بين النساء ومكاناً لإشباع شهوات لسلطان، بل كان أيضاً مدرسة لتثقيف الجاريات وتعليمهن الموسيقى والشعر والفن والإسلام... فإبقاء سلطان العثمانيين بجانبهن يتطلب دهاءً كبيراً.
ويبدو أن الجزء المقبل من المسلسل سيكرس ليشرح للجمهور من هي روكسان التي تبدو كالطفلة التي تكتشف عالماً جديداً. فهذه المرأة التي تبدو في المسلسل لطيفة غيّرت واقع السلطنة وعرفها التاريخ على أنها من أكثر النساء احتيالاً في العالم. أما السلطان سليمان القانوني، فجبروته أرعب الغرب والشرق، وقوته ونفوذه لم يكن لهما حدود، كلك إن بطشه وقدرته على القتل من دون رحمة كانا من ميزاته. لكنه في المسلسل يضيع بين بعض مظاهر القوة والكثير من الضعف أمام النساء... أما عن الدهاء السياسي، فقد نسيه المخرج، فظهر سليمان الذي أرعب الغرب وكأنه يقلّد ملوكه!
كان يمكن المسلسل أن يكون نقطة فخر لحضارة مهمة عرفتها تركيا سابقاً، لكنه أتى ليلقي نظرة خاطفة وسطحية على تاريخ عميق.