في جل البحر، على مدخل صور، عثر على مقبرة جماعية فينيقية دفن فيها سبعة راشدين، وطفلان ورؤوس خمسة ثيران. أسباب الوفاة في هذه المقبرة الجماعية تثير الكثير من التساؤلات، بحسب المسؤول عن مكتب المديرية العامة للآثار في الجنوب علي بدوي، الذي يتوقع أن يكون الأشخاص قد اقتيدوا الى المكان عنوة، فوضعية أجسامهم غير طبيعية، منهم من مات ويداه خلف ظهره، كأنهم كانوا مكبلين، فيما يمسك الطفل بقدمي الراشد الواقف أمامه، وهناك شخصان يمسكان بأيدي بعضهما البعض. يبدو أن الذعر كان يخيم على هؤلاء الأفراد في هذا المدفن الجماعي، يقول بدوي.
هل كان هؤلاء مصابين بمرض ما وقتلوا؟ أم قدموا ذبائح بشرية كتضحية بسبب وباء أو حرب؟ يؤكد الرجل أنّه لا أحد يستطيع أن يجزم بشأن الضحايا إذا كان لا يملك المعطيات المؤكدة، فوجود رؤوس الثيران داخل الحفرة مثير للجدل، ثم إنّ القرون الكبيرة تعني أن انتقاءها لم يكن عشوائياً، ولم تدفن منها إلّا الرؤوس، أما باقي الجسم، فغير موجود.
ماذا حدث في جل البحر قبل 2300 سنة؟ سؤال يلفه الغموض، فطقوس الدفن غريبة ومجهولة في حوض المتوسط عموماً، وفي الحضارة الفينيقية خصوصاً. ويرى بدوي أن «ما يزيد من صعوبة فهم هذا القبر الجماعي هو افتقاره إلى القطع الأثرية. فعلماء الآثار الذين ينجزون العمل في العقار تحت إشراف المديرية العامة للآثار، لم يعثروا في هذا المدفن على قطعة من الفخار أو الكتابة، أو أي قطعة أثرية تسهم في فك اللغز. حتى إن تحديد الحقبة التاريخية التي حدثت فيها عملية الدفن أتت بعد مقاربة في الارتفاع عن سطح البحر بين هذا المدفن وآخر بقربه».
ولم يستطع العلماء تحديد أسباب الوفاة، لأن القتل لم يطاول العظام مثل التكسير، بينما تبقى معرفة ما إذا كان هناك مرض ما أو وباء مرهونة بإنجاز فحوص «دي. أن. آي» على الأسنان الباقية في الهياكل العظمية، لكن كلفة الدراسة لم تدخل في الميزانية الأولى للحفرية، لذا يجري حالياً البحث عن متخصصين مهتمين بحل هذا اللغز يأخذون على عاتقهم كلفة المختبر والفحوص.
وعندما تتوقف التساؤلات حول المدفن والدفن يبدأ الجدل بشأن ارتباطه بالبناء الضخم الذي يبتعد عنه متراً، ويشبه شكل المذبح بطول 7 أمتار وعرض 3. المذبح مبني من حجارة كلسية غير مصقولة، وشكله المستطيل غير جالس في طرفه الشمالي، وتنتشر أمامه حجارة مصفوفة في ما يشبه السور، وله مدخل واضح. فهل كان هذا الموقع للشعائر الدينية في الدفن؟ وهل كانت تقام هنا طقوس وشعائر تبعد هذه المدافن عن المدينة؟ أم أنّ من كان يدفن هنا لم يكن مرغوباً فيه؟
وكان العلماء قد عثروا في الموقع على ثلاثة قبور، حيث غطت جرار كبيرة وجوه المدفونين فيها، وهناك تسعة قبور لم يكن فيها إلا رأس، وهناك ميت رمي في الرمل ويداه مكبلتان بالأسلاك المعدنية.
وعن رمزية هذا الدفن، يشير بدوي إلى أنه «لا يمكن الجزم لأن المشكلة تكمن في عدم معرفة طقوس الدفن عند الفينيقيين عموماً بسبب الافتقار إلى النصوص التي تصفها»، مؤكداً أن البحث جارٍ في المنشورات العلمية لمعرفة ما إذا كانت هناك مدافن شبيهة مكتشفة في منطقة البحر المتوسط.
وتنتشر القبور التي يصل عددها إلى 270 في منطقة جل البحر على مدخل صور، وهي محفورة في رمل البحر. ويتركز عمل الفريق في الموقع منذ أكثر من سنتين على إنهاء الحفريات ورفع الهياكل العظمية والقطع الأثرية على نحو علمي. فصاحب العقار، الذي اشتراه بـ31 مليون دولار، ينوي تشييد أبنية سكنية ومراكز تجارية عدة. وينفي بدوي أنّ تكون مسألة المحافظة على المذبح في مكانه قد طرحت حتى الآن، بسبب عدم إنهاء الحفريات في الموقع.
هذا العقار هو منطقة مدفنية واسعة استخدمت في الفترات الفينيقية والهلنستية، لكنّ بدوي يرى أن أهمية هذه الحفريات لا تتوقف على طرق الدفن فقط، بل أيضاً على اللقى الأثرية التي وضعت في بعض القبور. فقد عثر في أحدها على قطعة من الزجاج الأزرق حفر عليها وجه امرأة، وهي تحفة نادرة جداً. كذلك عثر في قبور أخرى من القرن الثاني قبل الميلاد على قطع حفرت عليها تقاليد وشعائر فرعونية مثل عين حورس ومفتاح الحياة. فهل يعني ذلك أن المعتقدات بقيت سائدة هي نفسها لأكثر من 3000 سنة؟ وهل هذا شاهد على محافظة شعب على شعائره رغم تغيير الثقافات؟ موقع جل البحر يحوي أسراراً جديدة لديانة الفينيقيين، لا تزال دراستها في بدايتها.