يحلو «المشوار» إلى سفوح جبل الشيخ في هذه الأيام الحارة. نسيم الأعشاب البرية وأشجار السنديان والبلان واللزاب وعبق بساتين الكرز والخوخ والتفاح، تجعل منه رحلة إلى النعيم. ألوان المواسم التي أينعت وحان حصادها يخالها الناظر إليها لوحة طبيعية مكتملة تتدرج من القمح الذهبي إلى أخضر السنديان وأحمر الكرز. وإذا كان مزارعو اللوزيات والأشجار المثمرة والأعشاب والحبوب، سيقطف كل منهم موسمه، فثمة من يقطف معهم في مثل هذه الأيام، هم مربو النحل. هؤلاء يعبئون هذه الأيام، في مرطبان صغير واحد، الطبيعة بكامل خيراتها.
خلية نحل تبدو مزرعة عين تنتا، التابعة لبلدة الخلوات في حاصبيا، عند سفوح جبل الشيخ. فالحي الصغير الواقع بين الحقول والبساتين والأحراج، حوّله سكانه إلى موطن هنيء للنحل الذي يستقر في محيطه ويتنقل بين أرجائه، وصولاً إلى أعالي الجبل. من بين هؤلاء، طارق أبو فاعور الذي نذر حياته لتربية قطاع النحل وتطويره منذ عمر المراهقة، حتى غدا بعد عشرين عاماً «شيخ النحالين» في المنطقة. لذلك انتُخب لاحقاً رئيساً لمنتدى النحالين في الجنوب وممثله لدى وزارة الزراعة.
الشيخ وزملاؤه من نحّالي المنطقة، يستثمرون جيداً النعمة التي ورثوها، بجيرتهم مع جبل الشيخ. على «كعبه»، يحفظ أبو فاعور جيداً قفران النحل العائدة له. تلك الجيوش تجتاح مملكة النباتات النادرة التي لا يتكرر بعضها في أماكن أخرى، لتنتج عسلاً عالي الجودة. ومنه عسل الزلوع الذي ينتشر في جبل حرمون بين لبنان وسوريا وفي بعض جبال فلسطين وتركيا. النبات البري الذي يرتفع حتى مترين، يصنف نباتاً طبياً يفيد في حالات الضعف العام كمقوٍّ ومنشط جسدي ومنشط جنسي فعّال وفي حـالات الربو والسعال الديكي. كذلك فإنه مقوٍّ للأعصاب وطارد للغازات والمغص وحالات تطبّل البطن، ومضاد للتشنج ويفيد في علاج أمراض الجهاز البولي. وبالتالي، إن العسل المستخلص من الزلوع يحمل معه فوائده. وإلى جانب الزلوع، يتغذى نحل جبل الشيخ من الأعشاب البرية: نعنع الجبل والحلبلب ونبتة الحمحمة والقريشي والزوفى. لكن أبرز تلك الأعشاب هو أشواك الشنديب الذي يمنح زهره مذاقاً حلواً ونكهة مميزة للعسل. علماً بأن النحالين يعتمدون في غذاء قفرانهم على دراسة تحصي النباتات المسجلة بـ2700 نوع، من بينها 500 نوع من النباتات الرحيقية التي تعدّ مصدراً لإنتاج العسل. وهنا، يقارن أبو فاعور بين رصيد لبنان وحده ورصيد القارة الأوروبية بكاملها التي تحصي وجود 700 نوع من النباتات الرحيقية. هذا الرصيد ساهم خلال العام الفائت في قطف ثلاثة مواسم من العسل، فيما المعتاد قطف موسمين في ظاهرة تعرف بالندوة العسلية؛ إذ قطف أبو فاعور عشرات الأطنان من الزهر الربيعي الساحلي والصيفي والجبلي.
لكن تلك الثروة الطبيعية مهددة. يشير أبو فاعور إلى أن النحالين خسروا هذا العام الموسم الربيعي بسبب الشتاء القاسي الذي ضرب لبنان وأدى إلى نفوق المئات من القفران، إلى جانب أنواع الأمراض المتزايدة التي تفتك بالنحل. صراع نحل المنطقة مع المرض بدأ مع الاحتلال الإسرائيلي؛ إذ سجل في عام 1984 انتشار أمراض لم تكن معروفة في ذلك الحين، سببها نشر إسرائيل لنحل استقدمته من الأراضي المحتلة وأدى إلى نفوق النحل المحلي بنسبة 90%. حالياً، يواجه النحل مرض الباروا الذي تسببه حشرة الباروا جاكبسوني التي تهاجم اليرقة وتتغذى من دمها، فتسبب لها نقصاً وتشوهاً، وتنمو من دون أجنحة. لكن المرض الأبرز هو التعفن الحمضي بنوعيه الأوروبي والأميركي الذي يعاني منه معظم النحالين، والذي يسببه فيروس باسيليس المنتشر في الطبيعة، الذي يهاجم اليرقة داخل الخلية ويبيدها في غضون عشرة أيام. وخلال سنة، يمكن الخلية المصابة أن تعدي الخلايا الأخرى في دائرة تمتد خمسة كيلومترات. وفيما يتمكن النحال بصعوبة من إنقاذ قفرانه من التعفن الأوروبي من خلال الوقاية والحماية، فإن التعفن الأميركي أخطر، ولا سيما أن النوعين لا علاج لهما حتى الآن.
حالياً يجهد النحالون لحماية قفرانهم حتى إنتاج الموسم الصيفي في نهاية الفصل الجاري للتعويض عن بعض ما خسروه. أما وزارة الزراعة فقد وزعت من جهتها في إطار حماية النحل عبر مراكزها في المناطق دواءً على النحالين لمكافحة طفيلي الفاروا في إطار برنامجها لدعم قطاع النحل وتطويره، فيما كانت قد أطلقت خطة استراتيجية لإحصاء النحالين وإنشاء لجان خاصة بهم في الوزارة.