أوقف عناصر من مكتب مكافحة المخدرات المركزي ثلاثة شبان يتعاطون المخدرات. أثناء التحقيق، أقرّ هؤلاء باسم الشخص الذي يزوّدهم بـ«البضاعة». وفي عملية أمنية، تمكن المحققون من استدراج المطلوب بواسطة أحد المتعاطين، فتم توقيفه وُضبطت معه ثلاثة غرامات من مادة الهيرويين المخدرة موضبة ضمن ثلاثة أكياس معدة للتوزيع. استجوب المحققون الموقوف، فاعترف بأنه يحصل على المخدرات من تاجر معروف كان ولا يزال مجهول محل الإقامة بالنسبة إلى المحققين.
هذا السيناريو من نسج الخيال، لكنه يتكرر كل يوم وفق الصيغة نفسها. بعد ذلك، يحال الموقوفون لدى قاضي التحقيق حيث يستجوبون مجدداً ويُصار إلى تحديد الوصف الجرمي لكل منهم، فيكون هناك متعاطٍ لأول مرة يُخلى سبيله، ومكرر للتعاطي يوقف شهراً أو أكثر، ومروّج مخدرات يحكم بالسجن خمس سنوات، وتاجر ــــ موزّع يحكم بالسجن المؤبد غيابياً، ليخفض الحكم حضورياً، بعد توقيفه، إلى... خمس سنوات أيضاًً!
هنا تكمن المشكلة: إذ كيف يمكن أن يكون عنصر المال هو الفارق بين ترويج المخدرات والإتجار بها. بمعنى آخر، يروي أحد القضاة أن من يقدّم المخدرات لصديقته أو لصديقه على سبيل «الضيافة» يُعدّ مروّجاً، أما إذ قبض المال فيكون تاجراً.
في حين، بحسب القاضي، «تفترض العدالة أن يُحكم المروج من دون بدل، بعقوبة الجنحة لا الجناية». ويستغرب القاضي نفسه «الرقم خمسة العجيب»، في إشارة منه إلى السنوات الخمس التي يعاقب بها المروّج والتاجر على السواء.
ويسأل: كيف يُحكم من أوصل 3 غرامات وقبض ثمنها بالمدة نفسها التي يُحكم بها تاجرٌ ذائع الصيت باع عشرات الكيلوغرامات من المخدرات؟
يلقي كثيرون من أهل القانون باللوم في ذلك على «قانون المخدرات الملتبس الذي يستوجب التفصيل والإيضاح». ويطالب هؤلاء بالتمييز بين مروّج المخدرات الصغير والتاجر الكبير. فـ«المروّج الذي يسهّل التعاطي ليس تاجراً أبداً». ويذهب المطالبون بالفصل بين جرمي الترويج والإتجار إلى حدّ المناداة بفصل من نوعٍ آخر، يكاد يكون أشدّ أهمية، هو التمييز بين المتعاطي والمروّج، إذ إن هناك أحكاماً صدرت اعتُبر فيها المتعاطي، الذي قدّم على سبيل «الضيافة» التي لا تُعدّ تسهيلاً، مروّجاً للمخدرات، فأُنزلت بحقه عقوبة السجن لمدة خمس سنوات، علماً بأن كلمة ترويج لم ترد في قانون المخدرات أصلاً. كما أن المواد التي تتناول الاتجار بالمخدرات لم تلحظ صيغة «ترويج »، إلا من باب «تسهيل» الحصول على المخدرات.
وفيما يرى قضاة أن الضيافة تُشكّل تسهيلاً لتعاطي المخدرات، وبالتالي فهي إحدى صور الترويج، المنصوص عليها في المادة 123 من قانون العقوبات، يرى آخرون أن الضيافة اشتراكٌ في التعاطي لا تستوجب اعتبارها جناية. ووسط الموقفين، يحضر رأي ثالث يتبناه قانونيون يعتبرون أن «مفهوم الضيافة واسع»، إذ إنها أحياناً تكون «أخطر بكثير من البيع نفسه إذا كان القصد منها جذب شخص إلى المخدرات للمرة الأولى»، وهذا فعل جنائي. ويتحمّل الوزر نفسه، من يوفّر المخدرات لشخص يتعذر عليه الوصول إلى المادة المخدرة. ويذهب أصحاب هذا الموقف إلى القول إن «ضرب المروجين سيؤدي بالتأكيد إلى وقف عمل تجار المخدرات الكبار».
النقاش في هذه القضية قديم جديد، لكن ما فاقم من إلحاح المسألة إقرار قانون خفض العقوبات الذي استثنى في مادته الثامنة جرم الإتجار بالمخدرات من منحة الخفض، فبات المحكوم بجناية الاتجار بالمخدرات لا تُخفض مدة سجنه، بينما تُخفض للمحكوم بجناية الترويج. هنا اختلط الأمر على لجنة خفض العقوبات، إذ إن الكثير من القضاة كانوا يخلطون بين جرمي الإتجار والترويج. ولإزالة الغموض، طلبت لجنة خفض العقوبات من بعض القضاة الذين يكتنف الغموض أحكامهم في الفصل بين الاتجار والترويج، إعطاء توضيح، ليُبنى عليه قرار خفض العقوبة من عدمه. إذ إن الفعل الجرمي، بحسب أكثر من مرجع قضائي، لا يمكن أن يستجمع على تجارة وترويج في آن واحد، فمن يروّج المخدرات ويقوم بتوصيلها إلى المتعاطين غير الذي يتاجر بالمخدرات ويوزّعها. وبحسب هذه المراجع، فإن التاجر هو ممتهن الشيء، لكن المروّج ليس لديه هذه المهنة، إنّما يسوّق المادة المخدّرة.
اجتهاد قانوني
في اجتهاد صدر عن محكمة التمييز الجزائية في قضية مخدرات، ميّزت المحكمة في حكم أصدرته بين المروّج الصغير والتاجر الكبير للمخدرات. ورأت أن قانون المخدرات الجديد لا يمنع على المحاكم، التي درجت على إعطاء عقوبة موحدة لكل المروجين، اتخاذ الموقف الذي يقتضي فيه تطبيق القوانين بشكل يحفظ للعدالة مجراها. وقد أفضى الحكم الذي أصدرته في 25 حزيران 2010 بحق علي م. الذي أحيل عليها بجناية ترويج المخدرات إلى إنزال العقوبة القصوى بحقه لجهة تعاطي الهيرويين بحبسه 3 سنوات وإعلان براءته من جناية الترويج للشك وعدم كفاية الدليل مع تغريمه مبلغ مليون ليرة، علماً بأن محكمة الجنايات في بيروت كانت قد أصدرت بحقه حكماً قضى بحبسه خمس سنوات بجناية ترويج
المخدرات.