يفتتح متحف اللوفر الفرنسي، في الأشهر المقبلة، قاعات التحف الشرقية الجديدة. ومن المتوقع أن تزيّن أرض إحداها قطعة فسيفساء ضخمة تصل مساحتها إلى 120 متراً مربعاً وتعرف بفسيفساء قبر حيرام، نسبة إلى القرية الجنوبية الواقعة في منطقة صور.
قطعة الفسيفساء هذه، اكتشفها سنة 1861 العالم الفرنسي إرنست رينان، عندما كان ينجز دراسة تفصيلية عن آثار لبنان. في قبر حيرام، عثر رينان على الكنيسة البيزنطية التي كانت هذه الفسيفساء تزين أرضيتها، فعمل على تفكيكها وتوضيبها وإرسالها بحراً إلى فرنسا، لتصل أخيراً إلى متحف اللوفر. عقب تلك الرحلة الطويلة، أرسل القيّمون على المتحف الفسيفساء المفككة إلى مركز للترميم، حيث عملوا على تثبيت القطع الحجرية على أرضية من الباطون وملأوا الفراغات، كما كان متبعاً في حينها. لكن هذه الطريقة لم تُعد للتحفة الأثرية رونقها وجمالها، فوضعت في مخازن المتحف حتى سنة 1994. بقيت هناك، إلى أن قررت إدارة المتحف إعادة ترميمها لعرضها في قاعات التحف الشرقية. وقد استغرقت تلك العملية الكثير من الجهد والوقت أيضاً؛ إذ استمر العمل بها نحو عشر سنوات في أحد أهم مراكز ترميم الفسيفساء في فرنسا. وبتفصيل أكبر، فقد عمل أربعة مختصين على ترميمها لأكثر من 9000 ساعة لإعادة التحفة إلى ما كانت عليه قبل 1500 عام.
وتتميز هذه الفسيفساء بجمال رسومها المتقنة التي تصور الحياة في القرية، فنجد فيها مثلاً فلاحاً يقود حماراً محملاً بالفاكهة، أو غزلاناً تركض، أو امرأة تطرد «واوي» وتجمع غصون العنب. والجدير بالذكر أنه في سنة 1860، كانت فسيفساء قبر حيرام من أول القطع البيزنطية المكتشفة في الشرق، وكانت الرسوم المصورة عليها بالقطع الحجرية تدرس للمرة الأولى. لذلك، رأى رينان أن من الضروري إرسال القطعة الفريدة إلى متحف اللوفر الذي يحوي أجمل آثار العالم.
وفي هذا الإطار، يقول المدافعون عن أهمية المحافظة على القطع الأثرية في المتاحف الغربية، إن الثابت في الموضوع «أن القطعة الأثرية بقيت محمية لأكثر من 150 عاماً في اللوفر»، لا بل إن «المتحف تكلف ترميمها مرتين، وفي كل مرة كان أهل اختصاص من الطراز الأول يقومون بذلك». ويمكن حتى القول بأنها لو بقيت في أرض الجنوب لكانت قد سرقت على أيدي سارقي الآثار الذين نشطوا خلال الحرب الأهلية، أو على أيدي الجنود الإسرائيليين الذين أتوا إلى القرية وأقاموا فيها حفريات أثرية، وخصوصاً أن أهالي منطقة قبر حيرام أكدوا في وقتٍ سابق أن جنود الاحتلال سرقوا الكثير من القطع من الموقع الملاصق للقبر. لكنهم، بسبب الطوق الأمني الذي كان يفرضه الجنود، لم يتمكنوا من تحديد سرقاتهم. والمؤكد أن الإسرائيليين كانوا يعرفون بفسيفساء قبر حيرام في متحف اللوفر قبل دخولهم الموقع، ولولا ذلك لما أتوا لإنجاز الحفريات الأثرية بهذه السرعة.
بحسب القوانين الدولية للقطع الأثرية المعروضة في المتاحف العالمية، لا يحق لقرية قبر حيرام أو للبنان المطالبة بالفسيفساء؛ فاتفاقية اليونسكو 1970 لحماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح تقول إن حق الدول هو في المطالبة بالقطع الأثرية المسروقة من أرضها، إذا سرقت بعد تاريخ القبول بالاتفاقية، أي بعد عام 1970، وهذا ما لا يستطيع العمل به في لبنان، لأن القطعة أخذت قبل عام الاتفاقية بنحو 100 عام. وقد سقطت المطالبة بفعل عامل الوقت إذاً. ثم إن متحف اللوفر يتبع منذ أكثر من قرن سياسة عدم إعادة القطع المعروضة فيه إلى وطنها الأم، باستثناء مرة واحدة عام 2010، قضت بإعادة جداريات قبر فرعوني إلى مصر، بعدما هددت الأخيرة بقطع علاقتها الأثرية بفرنسا ومنعت البعثات الأثرية من متابعة العمل على أرضها. كذلك كانت بلدية عين أبل، من دون تدخل من الدولة اللبنانية، قد طالبت متحف اللوفر بإعادة قطعة أثرية اشتراها إرنست رينان نفسه من أهالي القرية في القرن التاسع عشر. إلا أن متحف اللوفر لم يعد تلك القطعة، مستبدلاً إياها بنسخة طبق الأصل عنها أرسلها إلى جنوب لبنان. والسؤال هنا: هل يمكن بلدية قبر حيرام أن تقوم بالمثل؟ طبعاً بعد أن تنفذ أحد أهم الشروط للحصول على نسخة عبر توفير مكان لائق لعرضها؟ فهل ستهتم القرية المشهورة جنوباً بإقامة مجسم للكنيسة البيزنطية التي اكتشفها رينان لتضع في أرضها نسخة من الفسيفساء؟