أصدرت محكمة جزاء صور، أول من أمس، حكماً بحق المواطنين محسن وعلي، قضى بسجنهما مدة ثلاث سنوات ودفع غرامة بقيمة مليون ليرة، لكل منهما، في دعوى كان قد أقامها ضدهما رئيس الغرفة الثانية في محكمة استئناف الجنوب القاضي نسيب إيليا. تهمتهما كانت عبارة عن قيامهما بالمناورات الاحتيالية على أصحاب الدعاوى، من عامة الناس، بهدف ابتزاز أموالهم من خلال إيهامهم بقدرتهما على التأثير في أحكام المحاكم، بحيث تأتي بالوجهة التي تخدم مصلحتهما. يذكر أن محسن، المحكوم عليه، يعمل في مكتب إحدى المحاميات.
ومما جاء في تفاصيل الحكم، أن عائلة لديها دعوى عالقة أمام القاضي إيليا موضوعها استئناف قرار القاضي العقاري، الذي كان قد قضى بإلزامها بدفع مبلغ مئة وعشرين مليون ليرة لبنانية، عنوانها المطالبة بخفض قيمة الرسوم المفروضة عليها. وفي تموز من عام 2010، قصد اثنان من العائلة مكتب إيليا في قصر عدل صيدا للاستفسار عن موعد صدور الحكم الخاص بها. وبعد تأجيل الموعد الذي أفيدا به لأسباب مختلفة، لجآ إلى الاستعانة بمحسن عبر نصيحة ووساطة من صديقهما علي؛ لأنه «واصل ولديه معارف على مستوى عالٍ ويمكنه مساعدتهما في حل قضيته». وبعد الاتفاق على إجراء تلك «الخدمة» لقاء عشرة ملايين ليرة، بدأ محسن بتنفيذ ما اتفق عليه. وبحسب تسلسل الوقائع كما يسردها الحكم، أعدّ القاضي إيليا مشروع القرار، وانتهى من صياغته، ليُحضره في اليوم التالي إلى مكتبه في قصر العدل، ثم سلمه إلى المستشار في المحكمة لدراسته. وفي التاريخ نفسه الذي تسلم فيه القاضي مشروع الحكم، وهو لا يزال في مكتبه في قصر العدل، اتصل بمحسن ثم طلب من رئيس المحكمة أن يأخذ الحكم معه إلى المنزل لدراسته، فنال مراده بعدما ذكر أن وعكة صحية ألمّت به، وبالتالي عدم قدرته على التركيز في المحكمة.
هكذا، يعرض الحكم الصادر عن القاضي بلال بدر، تسلسل الوقائع بدقة، ليبين أن محسن كان يتصل بصاحب العلاقة ليعود ويتصل مباشرة بمستشار المحكمة، وقد زوده بجميع المعلومات عن الدعوى الخاصة بعائلته بهدف دفعه إلى الوثوق به، وذلك بعد اتصاله بمستشار المحكمة. ومع قرب صدور الحكم، اتصل أحد أفراد العائلة بمحسن، طالباً منه «تزويده بنسخة موقعة منه عن القرار المزمع صدوره، حتى يدفع له المبلغ المتفق عليه أو أن يلاقيه نهار صدوره في قصر العدل في صيدا. فإذا صدر القرار لمصلحته، دفع له المال. عندها تراجع محسن عن عرضه وطلب من الشاهد أن ينسى الحديث الذي دار بينهما». وبعد أيام من «المفاوضات» الفاشلة، قرر شخصان من العائلة التوجه مباشرة إلى مكتب المدعي القاضي إيليا، وأعلماه بتفاصيل ما حصل معهما. وإذ تبين أن إيليا ليس على علم بالواقعة، نظّم محضراً بالمعلومات التي أدليا بها وأودعه جانب النيابة العامة الاستئنافية في الجنوب. يُشار إلى أن القاضي في حكمه، استند في تكوين اقتناعه إلى الوقائع التي أثبتتها محاضر الاستجوابات التي أجريت مع المدعى عليهما، إضافة إلى إفادة العائلة، بداية أمام رجال مفرزة صيدا القضائية ثم أمام قاضي التحقيق في الجنوب. كذلك استند إلى التناقض في إدلاءات محسن مع إدلاءات علي، وشهادة زوجته وبيان جدول الاتصالات التي أجراها في الفترة التي حصلت فيها الواقعة، والتي تؤكد إجراءه اتصالات مع أفراد العائلة ومع المستشار لمرات عدة، من دون أن يجمعه مع الأخير رابط مهني أو شخصي. إزاء تلك الأسباب، أدين محسن وعلي بتهمة جنحة محاولة الاحتيال والتدخل فيها استناداً إلى المادة 655 من قانون العقوبات، التي تعاقب «من حمل الغير بالمناورات الاحتيالية على تسليمه مالاً منقولاً أو غير منقول أو أسناداً تتضمن تعهداً أو إبراءً أو منفعة واستولى عليها». في هذه الحالة، وجدت المحكمة أن المتهمين أوهما المجني عليها (العائلة) بإمكان مساعدتها في خفض الرسوم المفروضة عليها، واستعملا صفة كاذبة للمخادعة والتأثير؛ إذ إن محسن لجأ إلى علي للتمكن من الاتصال بأحد أفراد العائلة، حيث أوهمه بقدرته على خفض قيمة الرسوم المحكوم بها. ولإقناعه ودفعه إلى الاطمئنان، كان يزوده بمعلومات صحيحة عن موضوع الدعوى، ويصور له أنه سيقصد قصر العدل في صيدا لإتمام الأمر.
وفي مقابل الجنح الاحتيالية التي أدين بها محسن، على وجه الخصوص، يعرض الحكم إقدامه على الإساءة إلى كرامة محكمة الاستئناف التي يرأسها المدعي إيليا، من خلال إيهام أحد أفراد العائلة بأن هيئتها ستصدر قراراً بالشكل الذي يرغبه إن قبض مبلغ عشرة ملايين ليرة. وهذا ما وجدته المحكمة يمثّل جنحة استناداً إلى المادة 386 من قانون العقوبات. وبالنظر إلى خطورة ما أقدم عليه المحكوم عليهما، من تأثير مباشر وغير مباشر على تطبيق القانون والعدالة وإصرار أحدهما (محسن) على التمادي في الإنكار والذم بالسلطات القضائية، اختارت المحكمة التشدد في تطبيق القانون وحكمهما بالحد الأقصى الذي تنص عليه عقوبة جرمهما. وإذ ألزمتهما بدفع مئة مليون ليرة لإيليا كتعويض رمزي عن العطل والضرر اللاحق به، أحالت نسخة عن الحكم على النيابة العامة الاستئنافية في الجنوب، للاطلاع وإجراء المقتضى بالنسبة إلى ما أدلى به محسن في جلسة المحاكمة الختامية، بأن موضوع الدعوى ضده هو «فيلم جرى تركيبه لدى النيابة العامة».
الحكم الذي تزامن صدوره مع الجدل المحتدم حول نزاهة بعض القضاة، يمثّل مادة تضاف إلى النقاش بشأن دور القضاء كسلطة للعدالة بين الناس. ففيما أثنى البعض على الحكم الذي يحاول إثبات النزاهة، وجد فيه آخرون برهاناً ساطعاً على الفساد. فالمدعى عليهما بمحاولة التأثير على عمل القضاء «لم يكونا ليجرؤا على ذلك لولا تجاوب المستشار معهما». هكذا يقول أحد المتابعين، فيما يعاكسه آخر الرأي، بالقول إن بعض «السماسرة» يخدعون الناس أحياناً من تلقاء أنفسهم.