طرابلس عاصمة الشمال. هذا ما تعلمناه في الكتب المدرسية، وما يعرفه جلّ اللبنانيين ـــــ ما لم نقل الكل ـــــ عن تلك المدينة التي تعدّ الأهم في لبنان الشمالي. وما نعرفه أيضاً ويعرفونه أن هذه المدينة اليوم تشهد صراعات سياسية هائلة، ومستوى الفقر فيها عال جداً. لكن ما ننساه وينسونه هو أن طرابلس هي «مدينة كل العصور»، كما عنون إيلي سالم، رئيس جامعة البلمند، الكتاب الذي أصدرته أخيراً الجامعة، والذي يضم بين دفّتيه «ماضي وحاضر» المدينة.
في ذلك الكتاب الجامع ما بين اللغتين العربية والإنكليزية، تحتل الصورة جلّ مساحاته، مقابل نصوص صغيرة، تعطي القارئ ما يعدّه الكاتب معلومات أساسية لفهم موضوع الصورة، من دون الدخول في الكثير من التفاصيل. وهي سمة مميزة بلا شك، إلا أنها في بعض المحطات تضع القارئ في موقع المتعطش لمعلومات إضافية، لكن مع ذلك، كان وافياً ما ورد.. ومبرّراً أيضاً، إذ يشير الكاتب في التوطئة إلى أن «الكتاب من صور يشد القارئ إليها. صور تتكلم ببلاغة الصمت عن هذه المدينة العريقة المعروفة بالنسبة إلى التاريخ منذ أن دوّن التاريخ». وقد نجح الكتاب في هذا الهدف، فصور ماريو سابا تبرز حال المدينة المزري لكن على نحو جميل، فلا يشعر القارئ بأن ما يراه هو خلل عمراني آتٍ من سوء في التنظيم، بل من توسع عمراني عشوائي عبر فترات مختلفة من الزمن. لذلك، لم يلجأ المصور إلى تحميل الصور ما لا تحتمل، بل تركها على حالها: طبيعية بلا أيّ إضافات أو دلالات مجازية، مع التركيز على التفاصيل لتقريب المشهد من الحياة. ففي السوق مثلاً، «تعبق» الصور برائحة البهارات. صور رائعة في جمالها ومتقنة أنجزها سابا.. ولم يرها في الكتاب، إذ إنه فارق الحياة قبل بضعة أسابيع.

بعيداً عن الصور المتقنة، يبدو التبويب غنياً أيضاً، إذ لا يتطرق إلى وجه واحد من أوجه المدينة، بل يدخل في تفاصيل كل معالمها، فهناك التاريخ والطبيعة، وهناك المعالم الدينية والمقاهي والأسواق والحمامات والخانات والجامعات والدور الثقافية والسياحية. ويعتمد في كل فصل من الفصول، نصوصاً وصوراً، أسلوباً جامعاً بين الماضي والحاضر، انطلاقاً من مبدأ أن «طرابلس مدينة الحاضر أبداً والماضي أبداً». وخدمةً لهذا الهدف، تتداخل صور المقاهي التقليدية مع تلك المنتشرة حالياً في شارع عزمي أو الميناء. أما دور العبادة، فيعطي الكاتب المكانة نفسها للجوامع والكنائس ولا يميز بينهما، متغاضياً عن مقولة أن «طرابلس إسلامية». وإضافة إلى الاختلاط الديني الواضح في الكتاب، يبرز أيضاً وجه المدينة المختلط اجتماعياً، ففي فقرة وجوه، تتزاحم صور «الشيوخ» و«النساء السافرات»، غير المحجبات، رافضاً الصورة الطاغية اليوم عن مدينة طرابلس، بأنها باتت ذات وجه واحد وهو الوجه الإسلامي المتطرف.
تتعدد الفصول. من الوجوه إلى الديانات إلى المعالم الطبيعية إلى المهن التقليدية الموغلة في القدم، في إيحاء للقارئ بأن هذه الحرف في طريقها إلى الزوال، كما يفرد الكاتب مساحة أخرى للبيوت القديمة بنوافذها وأبوابها. صور تؤرخ وتبرز كيف أن التميز العمراني «في البناء القديم كان يبين في التفاصيل، ففي المدن المكتظة والضيقة كانت النوافذ والأبواب الدلالة الوحيدة من الخارج على غنى أصحاب الدار أو فقرهم، فكان ميسورو الحال منهم يتفننون في تصاميمها».
كل تلك الأناقة، لا تخفي «الضعف» في الكتاب لناحية النصوص، وخصوصاً تلك المتعلقة بالتاريخ. فعلى سبيل المثال، يبدو ذلك واضحاً في الفقرة التي تشرح تاريخ طرابلس، والتي لا تحترم التسلسل التاريخي للأحداث، حيث يجري الانتقال من فترة تاريخية إلى أخرى على نحو عشوائي. مع ذلك، طرابلس تحتاج إلى هذا الكتاب، الذي يعطي القارئ صورة شاملة وواضحة عن هوية هذه المدينة. هوية بوجوه كثيرة ومتشعبة، حوّلت هذا المكان إلى موقع فريد من نوعه، ينضح ثقافة عمرها أكثر من ألف سنة، كما يؤرخ بالتفاصيل لحال هذه المدينة، وقد يكون في السنين المقبلة مرجعاً يمكن من خلاله معرفة تغير وجه المدينة العمراني أو الاجتماعي... وموثقاً بالصورة والكلمة للمدينة «التي لم تقطع صلتها بتاريخها وحاضرها أيضاً»، حيث يبدو الترابط بين الزمنين واضحاً تماماً في كل شيء، وخصوصاً التوسع العمراني على الأطراف.