السياسيون هنا أشباح. يختبئون في مواكب سوداء شبيهة بمواكب رجال المافيا. تكاد سياراتهم تدهس كل من تسوّل له نفسه عدم التنحي من طريقها، ويتخفّى راكبوها عن مواطنيهم خلف زجاج داكن «ضروري» لبناء الزعامة. لكن، هاجس الزعامة والأبهة لم يعد مقتصراً على المسؤولين وحدهم، بل صار يطاول حاشيتهم أيضاً، لأنهم بمثابة العمود الفقري الضامن لاستمرار هذه «الزعامة». يبرز ذلك في الأعداد الهائلة التي يسعى السياسيون وراءها. وفي الأساس، الجو الأمني هو سرّ علاقة اللبنانيين بـ«الفيميه». فبعدما كان هذا الزجاج المغلف بالأسود محصوراً ببعض عمليات القوى الأمنية وحماية الشخصيات المهددة، بات لازمة «تجغيل وتشبيح». أصبح الزجاج موضة.
أكثر من ذلك، بات يستخدم أيضاً في عمليات السرقة والترهيب، إذ بواسطته يمكن إخفاء حالات اختطاف أو تعاطي حشيشة الكيف والمخدرات. أخيراً، انتشرت هذه الظاهرة بشكل كبير، ولا سيما أن الأرقام الواردة من مديريات السير بيّنت وجود أكثر من 50 ألف سيارة «مفيّمة». وضع الواقع الجهات المعنية أمام مسؤولية أي جريمة يمكن حصولها من خلال التقصير لجهة «تسهيل منح التراخيص للبعض».
وزير الداخلية أعلنها، أخيراً، «حرباً بلا هوادة» لقمع مخالفة الدراجات النارية والزجاج الحاجب للرؤية. وصلت أعداد المخالفات المسجّلة بحسب غرفة عمليات قوى الأمن الداخلي إلى الآلاف. ترافق ذلك مع وضع الوزارة تنظيماً جديداً للسيارات المغطاة بزجاج حاجب للرؤية، بهدف خفض عددها. وفي هذا الإطار، أصدر الوزير شربل قراراً فوّض بموجبه صلاحية توقيع تراخيص الزجاج الحاجب للرؤية (فيميه)، إلى المسؤول عن أمنه الشخصي الرائد سعد كيروز. هكذا، حُدّدت «كوتا» معينة للسياسيين، فطلب شربل منح كل نائب أو وزير خمسة تراخيص، كما اتُّفق على أن يمنح كل ضابط ترخيصاً واحداً، إضافة إلى تسهيلات لبقية المواطنين الذين يحوزون مبررات لاستخدام هذا العازل. وعلى الأرض، تزامنت مرحلة التقدم بطلبات التراخيص وتجديد تلك المنتهية الصلاحية، مع وصول وفود المحتجين إلى مقرّ وزارة الداخلية في الصنائع. ممثلو السياسيين والزعماء والمراجع الروحية والدينية ووجهاء المناطق حضروا بكثافة، وتأبط كل منهم أوراقاً فيها أسماء عشرات الأشخاص المراد الحصول لهم على ترخيص. جُنّ جنون شربل فردّ جميع الطلبات من دون أن يقبل أياً منها، وأجرى اتصالات بالرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي ورؤساء الكتل النيابيّة، طالباً من كلّ منهم تعيين شخص واحد يتولى التنسيق للحصول على التراخيص. أبدى الجميع تجاوبهم، لتبدأ الجولة الثانية من عملية تقديم الطلبات. خطوة الوزير أسهمت في الحد من العشوائية التي كانت سائدة، لكنها لم تمنع الأشخاص الموكلين التنسيق لطلب الترخيص من حمل لوائح الأسماء نفسها المطلوب منحها الترخيص. بعض هؤلاء أرفق لائحة الأسماء بهدية للضابط المخوّل إعطاءه الترخيص، ما استلزم إجراءً آخر، وحلّت الهدايا إلى جانب السلاح في خانة الممنوعين من دخول الوزارة.
كان الوزير حاسماً مع بعض الاستثناءات. مُنح كل من النواب والوزراء خمسة تراخيص، زادت أحياناً لتصل إلى عشرة لكنها لم تتجاوز ذلك. امتعض كثيرون نتيجة عدم الحصول على التراخيص، والبعض لجأ إلى الاستعطاف: «الفيميه موجودة على السيارة منذ سنوات، ماذا سيقول أهل منطقتي عني عندما يرون سيارتي من دونها»، قال أحدهم راجياً، بينما ذهب آخر، وهو «وجيه» منطقة، أبعد من ذلك. تحدث عن فقدان هيبته إذا سحبت تراخيص الفيميه للمقرّبين منه. كما دخلت الفيميه في الحسابات الانتخابية، فتحدث أحد مسؤولي مكاتب أحد السياسيين عن احتمال تراجع شعبيتهم الانتخابية إن لم يوزّعوا تراخيص الفيميه. بدأت اتصالات السياسيين للمراجعة تنهمر على هاتف وزير الداخلية. اتصل أحد النواب ليستفسر عن سبب عدم حصوله على تراخيص فيميه، فتبين أن الشخص الذي انتدبه للحصول على التراخيص كان قد وزّع التراخيص التي حصل عليها على معارفه، بعدما راهن على أن التشدد لن يستمر، وبالتالي ستتراخى القبضة لينال النائب المعني مزيداً من التراخيص! بدوره، أُعطي المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي قرابة عشرة تراخيص للفيميه.
وفي ما يتعلق بالمواطنين، فقد اشتُرط لإعطاء التراخيص أن لا يكون في رصيد الطالب أي مخالفة سير. انهمرت الاتصالات كالسيل الجارف على هواتف وزارة الداخلية. يريد أصحابها التوسّط لمعارفهم للحصول على الترخيص. رقّ قلب الوزير أحياناً، فمنح تراخيص لمواطنين تقدموا بطلبات من دون اللجوء إلى «الواسطة» لكنه أبقى على تشدده مع الآخرين. ورغم ذلك، احتل السياسيون المرتبة الأولى في أعداد التراخيص التي حصلوا عليها، ولم ينافسهم فيها سوى الإعلاميين والصحافيين. فقد سُجّلت أعداد مرتفعة لأعداد الصحافيين الذين تقدمت مؤسساتهم بطلبات للحصول على تراخيص «فيميه» لهم.
اليوم، مرّت ثلاثة أشهر على قرار الوزير، لكن أعداد التراخيص الممنوحة لامست الثلاثة آلاف. العدد كبير نسبياً لكنه لا يقارن في ما كانت عليه الحال سابقاً، إذ إن أعداد التراخيص تجاوزت في إحدى الفترات خمسين ألفاً. ويُذكَر أن آلية منح هذه التراخيص مثّلت باباً من أبواب الفساد في وزارة الداخلية خلال العهود السابقة، فعلى ذمة متابعين، أعطيت بعشوائية حتى صارت تجارة مربحة وصل فيها سعر الترخيص الواحد أحياناً إلى ألف دولار أميركي.
في أية حال، لم تكن تراخيص الفيميه الشاغل الوحيد لقاطني وزارة الداخلية، فأرقام السيارات «المميزة» دخلت المنافسة أيضاً. لكن أوساط الوزير تحدثت عن دور حاسم له في ردع المستفيدين من دون وجه حق، فقد منع كل من سبق وحصل على رقم مماثل من الحصول على رقم آخر. انطلاقاً مما سبق، وبناءً على الإقبال اللافت على تراخيص الزجاج الأسود، وبعدما باتت «الفيميه» جزءاً من الثقافة اللبنانية لجهة «الفخفخة»، يسأل كثيرون عن سبب عدم استفادة خزينة الدولة منها، بتحويلها إلى خدمة، بفرض بدل مالي لقاء الحصول عليها، إسوة بإمارة دبي مثلاً، التي تسعّر خدمة «الفيميه» بحسب درجات الزجاج الداكن، ولا سيما أنه رغم محاولات الحد من تفلّتها، ما زال البعض يحصل على ترخيصه بالـ«واسطة».