«ارحل»، وجدها محمّد الشيخ على باب بيته ذات صباح. كغيره من لبنانيي مدينة القصير السوريّة، الذين لجأوا إلى الهرمل. ولجؤوهم لم يأت هرباً من الجيش السّوري، بل ممن يسميهم الشيخ، «الإخوان السّلفيين وأهالي متظاهري مدينة القصير». منذ تسعة أشهر، بدأ المهجرون يصلون إلى الهرمل. معظمهم حمل ما تيسّر من الملابس، وتوجّهوا إلى الهرمل. كذا فعلت عائلات كثيرة وتفعل منذ حين. رموا ذكرياتهم خلف الحدود، وامتهنوا البحث بين ركام نشرات الأخبار عن بيوتهم ومن بقي من أهلهم هناك. حرقٌ ممنهجٌ للمنازل، سلبٌ ونهبٌ لبيوت من رحل. فالرّاحلون لا يتوقعون العودة قريباً: «من لا يخرج للتظاهر يُسلَب بيته وتُحرق أرزاقه، بغض النظر عن انتمائه الطائفي» يقول أحدهم.
في القرى السورية التي يختلط فيها أبناء البلدين منذ ما قبل قيام الدولتين، تغيب قصص العائلات المهجرة. لم يُسمع بعد عن «إحراق المسلّحين البيوت بعدما حملوا أثاثها إلى الأسواق السوداء»، يقول أحد المهجرين، مضيفاً: «كل 10 بطّاريات بألف ليرة سوري، جرّة الغاز الواحدة بـ300 ليرة، يا بلاش»، يقولها والبسمة تعلو شفتيه: «تركت بيتي ومعملي وخرجت وأولادي نحمل ثيابنا فقط، لو أردت الآن أن أستعيد أثاث منزلي، يمكنني شراؤه من الشّوراع بالمفرّق، لكنّهم يعرفونني ولم يفعلوا هذا عن عبث». قبل الأزمة، مثّلت الزراعة مصدر الرزق الأساس لأهالي القصير، التي تتبع لها إداريّاً أكثر من أربعين قرية، إضافة إلى تهريب المازوت والسلع الأساسيّة إلى الداخل اللبناني عبر معبر الجورة غير الشّرعي. ومع بداية الأزمة، واندلاع المواجهات في المدينة ومحيطها، «توقّف الإنتاج الزّراعي لينحصر مصدر الرّزق في التهريب وأعمال السّلب». لا يأسف محمّد، «وضعي أرحم من غيري، الناس خسروا تعب عمرهم كلّه في البيوت والمعامل، كرمى لعيون الفوضى».
الفارون من العنف في هذه المنطقة لا تُتداول أرقامهم كنازحين أو لاجئين. أم علي، واحدة من مهجّري حي البيّاضة في مدينة حمص، ووالدة لخمسة أطفال. قبل خمسة أشهر، أكثر من 28 عائلة تسكن حي البيّاضة من آل الحلبي، خير الدين، رضا، العابدة وعرّام شدّت الرّحال إلى لبنان. «بعض جيراننا أخبرنا بأنّ المسلحين يعدّون لمجزرة ومن الأفضل أن نرحل»، تقول أم علي، وتكبت الدمع في عينيها. «لم نعتد سماع الرّصاص في سوريا، على مدى ثلاثين عاماً لم نسمع أنّ أحداً قتل بسبب طائفته، الأحياء في محيطنا مختلطة ولا نعرف مذاهب جيراننا حتى، كلّ ما يحصل الآن جديد وغريب. حيّ البيّاضة لم يسلم، احترقت البيوت بعد سلبها. الشبّان المختطفون بعضهم وجدت جثّته مرميّة في الشّوارع، والبعض الآخر لم يعرف عنه شيء حتى الآن».
ينفي المختار محمّد زعيتر أن يكون ما يحصل في قرى القصير ومحيطها عنفاً مذهبياً، لكنّه يشير إلى أيادٍ تحاول العزف على هذا الوتر وتعميمه. والمختار زعيتر هو واحد من خمسة مخاتير في بلدة القصر اللبنانية، يتابعون شؤون اللبنانيّين المقيمين في القرى التي خلف الحدود.
بعض المزارعين يملكون أراضي داخل الحدود السوريّة، وكلّ المزارعين يشترون البذار والمستلزمات الزّراعيّة من القصير، الناس العاديّون يشترون حاجياتهم من الخضار والخبز واللحم من القصير، «لكنّ الدّاخل إليها مفقود هذه الأياّم»، يقول المختار. يُصلح كوفيّته الحمراء على رأسه، يخفي غضبه خلف نظّارته، ويكرّر وصفه لما يحصل. يعرّج على حمص القريبة: «قبل فترة، قتل شاب لبناني مقيم في إحدى القرى في الداخل، كان ينقل العلف، قتله المسّلحون وسطَوا على شاحنته. وقبله قتلوا محمّد عيد، وهو سنّي بالمناسبة كان آتياً إلى الهرمل في سيارته مع زوجته وطفله الصغير».
هل ستتطوّر الأوضاع نحو الأسوأ؟ يتخوّف المختار كثيراً من فتنة «يسعى إليها بنهم أعداء سوريا ولبنان. في أسوأ اللحظات، كانت هذه القرى مثالاً للوحدة الاجتماعيّة، المتربّصون كثر والفتنة تطلّ برأسها، لكنّ وعي الأهالي والتعالي عن الجراح لن يجرّانا إلى اقتتال مذهبي».