قد نحافظ على أماكن لجمالها الهندسي، ونحافظ على أماكن أخرى لأهميتها التاريخية، أو ربما نحافظ عليها لأنّ شخصيةً ما سكنت فيها فأعطتها قيمة معنوية تفوق قيمتها الهندسية والتاريخية. هكذا تكتسب الأماكن الأهمية التي نعطيها لها. أما وزارة الثقافة فهي السلطة التي تحدد هويات الأماكن المعنوية والفنية والتاريخية التي تصنّفها.
في قضية منزل أمين معلوف، قررت هذه السلطة إعطاء الإذن بهدم البيت، وهذا قرار يفضح الخطأ المبدئي للتعاطي مع العقار. فالمبنى يملك هويتين ثقافيتين: الأولى أدبية، والثانية هندسية. أما المنزل فهو مكان نشأة أحد أهم الكتّاب اللبنانيين الذين دخلوا الأكاديمية الفرنسية من بابها العريض، فوقف له لبنان ابتهاجاً بابنه البار، وصفّق له الرؤساء. وهو الشخص نفسه الذي لم يتنصل يوماً من هويته اللبنانية، فكان له منزل في بيروت. المفارقة أنّ المنزل الذي أمضى فيه معلوف 10 سنوات من عمره والذي سكنته والدته وشقيقته 40 عاماً لم يكن ملكاً لهم، بل كانوا يدفعون بدل إيجاره سنوياً.
وعندما بيع العقار، بات ملكاً لشركة كتانة التي طلبت هدمه من دون أن تدفع تعويضاً للمستأجرين القدامى. فاشترت أموال آل كتانة راحة ضمير المسؤولين. فبعد تنصل وزارة الثقافة لأهمية المكان الفنية لم يبق أمام معلوف سوى شراء بيت أهله وتحويله إلى متحف لنفسه. المهزلة الكاملة. ولم تعد أهمية المكان الهندسية قادرة على إنقاذه من الأبراج الباطونية.
يعتمد المبنى نمطاً هندسياً معروفاً في بيروت في ثلاثينيات القرن الماضي، ويعدّ محورياً في تغير نمط البناء في المدينة منذ الفترة العثمانية إلى الانتداب واستعمال الباطون بدلاً من الحجارة. قد يرى البعض أن هذه المواصفات الهندسية ليست كافية للمطالبة بالمحافظة على المبنى، لكن المشكلة تكمن في كمية الهدم المفرط للبيوت التي تعتمد هذا الطراز في بيروت. والمعضلة الكبرى أنّ وزارة الثقافة هي من أعطى الإذن بالهدم بعدما كانت قد رفضته سابقاً. وأتت الأعذار لتبرير الخطأ المبدئي: فمجلس النواب لم يقرّ قانون حماية الأبنية التاريخية (مع العلم بأن هذه الوزارة لم تطالب بتحريك الملف في أدراج اللجان النيابية)، كذلك فإنّ قرار منع الهدم ليس قانونياً مع غياب المخطط التوجيهي لمدينة بيروت، وبالطبع يبقى العائق هو بلدية بيروت التي تأذن بالهدم.
كل هذه العقبات كانت معروفة. لذا، استحصل الوزراء السابقون على قرار منع الهدم من مجلس الوزراء لإعطاء وزارة الثقافة سلطة لم تكن لها لوقف المجازر في البيوت التاريخية. ويعرف كل من في الوزارة والمديرية العامة للآثار حدود سلطتهم، فيتدخلون لدى المالكين للتوصل إلى حلول وسطية، لا إلى تبديد تاريخ البلد وتراثه. وبدلاً من أن تجد وزارة الثقافة في هذا العقار حلاً وسطياً بين المال والثقافة، فتسمح للمالك الجديد مثلاً بهدم جزء من العقار والمحافظة على البيت ضمن المشروع الجديد، ويصبح بالتالي لآل كتانة صرح ثقافي ذو اسم عالمي داخل برجهم التجاري، دخلت الوزارة وسيطاً لتسريع الهدم من دون شروط. هل يعقل أن لا تلتفت الوزارة إلى الشقين الثقافيين للعقار، فلا تدافع عن بيت كاتب عالمي مثل أمين معلوف؟ أليست الفنون والآداب من مسؤولياتها تماماً مثل الآثار والتراث؟ لكن، هل الوزارة هي المخطئ الوحيد، ماذا عن صاحب العقار، السيد كتانة الذي يحتفظ في مكتبته بالمجموعة الكاملة لمعلوف، فهل هو فخور بالهدم؟
هكذا، فإنّ المحافظة على منزل معلوف ليست لتوفير خط سياحي جديد في منطقة بدارو، بل للتأكيد على أن الدولة اللبنانية تحفظ لأبنائها جذورهم في وطنهم. فتحافظ على ما كان يوماً لهم وما يربطهم بهذه الأرض. العدول عن الخطأ فضيلة. لم تنته عملية الهدم بعد، ولا يزال هناك بصيص أمل بفرض تغيير المشروع على المالكين ليحفظ جزءاً من بيت الرجل، ولتكون الدولة قد حفظت له بعضاً من تاريخه. كذلك فإنّ هذا الهدم يفتح الباب أمام عمليات هدم أخرى. فهل باتت الطريق سالكة أمام هدم بيت فيروز الآيل إلى السقوط وقد يهدد السلامة العامة؟ مالكو العقار وبلدية بيروت يتركونه للأيام والعواصف، علها تعصف به فيقدمون طلب الهدم.
في مرسيليا، تعلو فندقاً صغيراً قريباً من المرفأ لافتة كتب عليها: «هنا مكث جان بول سارتر». هم يفتخرون بمبيت ليلة لفيلسوفهم في المكان.