مصطفى بسيوني
في المؤسسات الكبرى والهيئات الاقتصادية ومراكز اتخاذ القرار، نجد دوماً مكاناً محفوظاً للخبراء الاقتصاديين. يتقاضون مقابل استشاراتهم أجوراً مرتفعة عادةً، نظراً إلى ما تدرُّه من عائدات وفوائد. لكنّ أحمد السيد النجار اختار أن يكون مستشاراً للفقراء... أما هذا الخبير الاقتصادي، رئيس تحرير تقرير «الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية» السنوي (يصدر عن مؤسسة «الأهرام»)، فقد ارتبط اسمه بقضايا الفقراء: البطالة والخصخصة والأجور والدعم والفساد...
انحيازه القاطع للكادحين، ناتجٌ على الأرجح من نشأته البسيطة التي يتحدث عنها بفخر شديد. «والدي كان عاملاً في مدرسة ابتدائية في قريتنا «كفر هورين» التابعة لمركز بركة السبع في المنوفية، وكان فلاحاً أيضاً. أي إنه جمع عنصري الكدح في مصر... هو من علّمني القراءة قبل أن ألتحق بالمدرسة، وكان يأتيني كل يوم بقصة حتى فرغت من قراءة 600 قصة قبل التحاقي بالمدرسة. قبل وفاته وأنا في الصف الرابع الابتدائي، أوصى أمي ببيع قطعة أرضه الصغيرة، لأكمل أنا وإخوتي الثمانية تعليمنا. لم يكن والدي على علاقة بالسياسة، لكنّه كان مدركاً لواقع غياب العدالة».
ثقافة النجار المبكرة تركت أثراً على منهجه البحثي في الاقتصاد. أنجز قراءة «رأس المال» لماركس خلال المرحلة الثانوية. منذ بداياته، اشتهر بروحه النقديّة، فكان يرفض البيانات الرسمية ويفنِّدها تفنيداً علمياً سلساً، ويبدأ ببناء قاعدة بيانات. قام بذلك ببراعة عندما فنّد بيانات البطالة الرسميّة، وخرج بنتائج تثبت أن أرقام البطالة الحقيقية هي ضعف تلك المعلنة، وذلك عن طريق حصر المتقدمين لشغل الوظائف التي تعلن عنها الدولة.
لم تتأثر جرأته بعمله في مؤسسة «الأهرام» الرسمية، أو بحصوله على جائزة الدولة التشجيعية في الاقتصاد عام 1999. بقي على مواقفه النقدية تجاه السياسة الاقتصادية للحكومة، وفي مواظبته على كشف الفساد في سياسات الخصخصة، وهو فسادٌ وصل حدّ بيع شركة بأقلّ من قيمة الأرض المقامة عليها... بلغ في نقده درجة التحدي في كتابه «الانهيار الاقتصادي في عهد مبارك» الذي صدر عشية انتخابات رئاسة الجمهورية متضمناً نقداً حاسماً، لكلّ السياسات الاقتصادية والاجتماعية طوال عهد الرئيس المصري. هذا إضافة إلى أبحاثه المبدعة عن هياكل الأجور في مصر والتفاوت الرهيب فيها، وقضايا البطالة والمسؤولية الاجتماعية للدولة، ومحاولاته تقديم حلول واقعية لمعاناة الفقراء.
لكنّ انحيازه للكادحين لم يقتصر على الدراسات فقط. هذا الخبير الاقتصادي لم يتردّد في تلبية دعوة أي مجموعة من الشباب أو العمال، في أي مدينة أو منطقة مصريّة، ليقدم للعامّة أفكاره عن العدالة، ويشرح بصبر وتبسيط قضايا الاقتصاد المعقدة ويربطها ببراعة بالقضايا اليومية.
عرف النجار طريقه مبكراً إلى السجون. كانت المرة الأولى في عام 1977، عندما حاول نقل رسالة بين أخته وزوجها اللذين سجنا على خلفية انتفاضة الخبز، وكان حينها طالباً في الثانوية. المرة الثانية كانت في عام 1979، واحتجز حينها ثمانية أشهر كاملة في قضية «حزب العمال الشيوعي». «كانت المرحلة الأغنى في حياتي، لأنّنا استطعنا ساعتها فرض دخول الكتب إلى السجن، بعد إضراب عن الطعام استمر 13 يوماً. ثم تفرغت للقراءة في السجن وقرأت كما لم أقرأ من قبل». انتمى إلى حزب العمال حينها «لأنه كان المنظمة الأكثر اهتماماً بزيادة وعي أعضائها، بين منظمات اليسار الراديكالي في تلك الفترة».
عاد النجار إلى السجن مجدداً بعد اغتيال السادات عام 1981، ضمن حملة اعتقالات واسعة، لكن من دون أي مبرر فعلي: يذكر تلك المرحلة بتندّر: «كنا نقول عندما نعتقل: السجن فتح بُقّو وأخدنا. وعندما نخرج نقول: السجن فتح بُقّو ورمانا»، في إشارة إلى عبثية هذا النظام».
الدقة والعمق والجدية التي يتطلبها علم جاف وجامد مثل الاقتصاد، لم تمنع النجار من البساطة في تقديم الأفكار. حتى أصبح من الاقتصاديين النادرين الذين يقدمون للجمهور كتابات شيقة. يرجع النجار ذلك إلى تأثره بأستاذ الاقتصاد الراحل رمزي زكي، وحبّه الشديد للأدب وخصوصاً الرواية، إضافةً إلى تأثره المبكر بكارل ماركس. «أول قراءاتي في الاقتصاد كانت لماركس، وهو يستخدم لغة الأدب والنقد اللاذع ولغة الحياة اليومية في تقديم أفكار عميقة. لا أعتبر الاقتصاد علماً فقط. هو مصدر القوة الشاملة لأي بلد، والمحدد الرئيسي لأرزاق الناس، وبالتالي لا يمكن عزله عن علم الاجتماع والسياسة».
لكنّ النجار غالباً ما يثير التساؤلات حول تأكيده الصريح لمرجعيته الماركسيّة، فيما تدور الحلول التي يقدّمها غالباً في فلك الـ«كينزية» (نسبة إلى عالم الاقتصاد البريطاني جون مينارد كينز 1883 ــــ 1946)، وهذا ما يعلق عليه بنفسه قائلاً: «استعان Keynes بالأفكار الاشتراكية لإنقاذ الرأسمالية، ودعمها عبر تدخُّل الدولة. وما أطرحه كحلول ليس محاولةً لإنقاذ الرأسمالية، لكنّه تحقيق درجة معينة من العدالة كمرحلة انتقالية إلى نظام اشتراكي على أساس أنّ العدالة ليست ترفاً. وأود هنا التمييز بين الماركسية، والتجربة اللينينية التي اعتمدت على حرق المراحل، الأمر الذي ينطوي على مخاطرات. كما أريد التأكيد على أنّ دول الكتلة الشرقية لم تكن اشتراكية، بل رأسمالية. وللأسف بعد سقوط نماذج رأسمالية الدولة، اتسم الهجوم على الاشتراكية ليس فقط بالمغالطات والسطحية، بل أيضاً بالانحطاط والسوقية». معظم المختلفين مع أحمد السيّد النجار يولون أفكاره وأبحاثه ثقةً خاصةً. يعود ذلك إلى التزام حديدي وجدية وعمق وظّفها هذا العالم الاقتصادي المصري المغاير في خدمة انحيازه الأصيل... إلى الكادحين.


5 تواريخ

1959
الولادة في بلدة كفر هورين في دلتا مصر

1984
تخرج من «كلية الاقتصاد والعلوم السياسية» في «جامعة القاهرة»، وعيّن بعد عام باحثاً في «مركز الدراسات الاستراتيجية» لـ«الأهرام»، ثمّ أصبح رئيس تحرير التقرير الاقتصادي

1999
حاز جائزة الدولة التشجيعية في الاقتصاد

2005
صدور كتابه «الانهيار الاقتصادي في عهد مبارك» (دار ميريت) الذي أعيد طبعه العام الماضي

2009
شارك مع قيادات عمّالية في حملة من أجل رفع الحد الأدنى للأجور في مصر