ستيفن والت*تحول عقبات كثيرة دون تطوير سياسة خارجيّة أميركيّة عاقلة، منها فشلنا الجماعي في إدراك السبب وراء إنتاج الاحتلالات العسكريّة هذا الكمّ الكبير من الحقد، الضغينة والمقاومة، ولماذا يجب علينا، بناءً على ذلك، أن نقوم بجهود هائلة كي لا نغرق فيها. الاحتلالات المكلفة هي ما يتمنّاه المرء لخصومه عادة، وخصوصاً في مناطق غير ذات أهمية استراتيجية فعلية. غامرنا في الصومال في أوائل التسعينيات دون أن نعي أنّه غير مرحَّب بنا هناك. احتللنا العراق ونحن نظن أنّه سيرحَّب بنا كمحرّرين، ولا نزال غير قادرين على فهم لماذا يحتقر العديد من الأفغان وجودنا ولماذا يحمل البعض منهم السلاح ضدنا.
ليست التجربة الأميركية فريدة. فقد أثار الاحتلال البريطاني للعراق، بعد الحرب العالمية الأولى، مقاومة شرسة، وواجهت القوات البريطانية في وصايتها على فلسطين مقاومة مسلحة من المجموعات العربية والصهيونية على السواء. كما أنتج الحكم الفرنسي في الجزائر، سوريا، لبنان والهند الصينية حركات مقاومة عنيفة، وحاربت روسيا المتمردين الشيشان في القرن التاسع عشر، والقرن العشرين والواحد والعشرين. رحّب السكان الشيعة في جنوب لبنان، بداية، بالاجتياح الإسرائيلي عام 1982، لكنّ الجيش الإسرائيلي تصرف تصرّفاً سيئاً وبقي فترة طويلة، ما أدى إلى إنشاء حزب الله. تفاجأ الإسرائيليون أيضاً بالانتفاضة الأولى في 1987، بعدما اعتقدوا خاطئين أنّ احتلالهم الضفة الغربية تطوّعي وأنّ الفلسطينيين سيسعدون بأن يحكمهم الجيش الإسرائيلي إلى الأبد.
ينتج الاحتلال العسكري مقاومة لأنّه مهين، معطّل وعشوائي، وأحياناً مفزع لمن يعيش في ظله حتى عندما يكون المحتل يتصرف بدوافع جيدة بشكل أو بآخر. إذا وقعت في فخ للسرعة مع شرطي وقح أو فاسد، أو مُيِّزت عن غيرك عند عبورك الحدود، فستتكوّن لديك فكرة بسيطة عما هو عليه الأمر في الحقيقة. أنت تحت رحمة الشخص المسؤول، الذي يكون بطبيعة الحال مسلحاً جيداً ويستطيع فعل كلّ ما يريد. أي إشارة لاعتراض ستجعل الأمور تنحو نحو الأسوأ، وفي بعض المواقف ستعرّضك للاعتقال، الضرب أو ما هو أسوأ من ذلك. لذلك تبتلع غضبك وتتحمّل ما يحصل لك. تخيّل أنّ هذا يجري بعد انتظارك ساعات على حاجز تفتيش داخلي، ولا يتكلم أي من المحتلين لغتك، ويتكرر هذا الأمر يومياً. من حين إلى آخر، يقتل الاحتلال أشخاصاً أبرياء عن طريق الخطأ، ينخرط في أشكال أخرى من الاستخدام العشوائي للقوّة. يفعل كلّ ذلك مع احترام قليل للعادات والحساسيات المحلية. حافظْ على هذا الوضع لفترة، وسيحاول بعض السكان المحليين البحث عن طريقة للرد. قد يقرر بعضهم لبس سترة ناسفة أو قيادة سيارة مفخخة والتضحية
بأنفسهم.
يقال أحياناً إنّ الأميركيين لا يفهمون هذه الظاهرة لأنّ الولايات المتحدة لم تتعرض للغزو أو الاحتلال يوماً. لكن هذا، ببساطة، ليس صحيحاً. بعد الحرب الأهلية، احتل «جيش أجنبي» الولايات الإحدى عشرة التي انفصلت عن أميركا وفرض نظاماً سياسياً جديداً وجده معظم السكان الجنوبيين البيض كريهاً. وضع قانون إعادة الإعمار الأول (1867) غالبية الولايات الجنوبية تحت سيطرة عسكرية رسمية، وكُتبت في ظله دساتير جديدة للولايات، وسُعي من خلاله لإعتاق العبيد السابقين. كما كانت هناك محاولة لبناء اقتصاد الجنوب، لكن أعاق الفساد والإدارة الضعيفة جهود إعادة الإعمار. أيبدو ذلك مألوفاً؟ مهما كانت الأهداف جديرة بالثناء، جاءت النتائج تماماً كما يمكن أن يتوقع المرء. ففي نهاية المطاف، أثار الاحتلال الشمالي مقاومة عنيفة من «الكلو كلوكس كلان»، رابطة البيض، القمصان الحمراء، ومجموعات متمردين أخرى، ساعدت على التصدي للقانون ومهدت الطريق لنظام جيم كرو (الفصل العنصري) الذي استمر حتى النصف الثاني من القرن العشرين.

لا نزال عاجزين عن فهم لماذا يحتقر العديد من الأفغان وجودنا ولماذا يحمل البعض منهم السلاح ضدنا
يجب علينا أيضاً ألا ننسى كم يدوم إحساس عميق بالغضب والحقد. كنت أناقش هذه المسألة، أخيراً، مع صحافي أميركي مرموق نشأ في الجنوب، وأخبرني أنّه بعد مئة عام على انتهاء الحرب الأهلية، لا يزال يتعلّم أغاني تعبّر عن الحقد تجاه ما فعله «اليانكيز» (الأميركيون الشماليون).
هذا ما تفعله الهزيمة في الحرب والاحتلال المطوّل لأي مجتمع، فهما ينتجان الحقد والضغينة التي يمكن أن تدوم قرناً أو أكثر. أبقى الحقد تجاه «حزب لينكولن»، الجنوب ديموقراطياً لعقود، وتبقى شخصيته السياسية مختلفة حتى اليوم، بعد حوالى 150 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية. (تبين استطلاعات الرأي حصول باراك أوباما على نسب تأييد عالية على سياسته في كلّ البلاد عدا الجنوب). ولا تنسوا أنّه بخلاف وجودنا الحالي في العراق وأفغانستان، كانت قوى الاحتلال الشمالية تتكلم اللغة نفسها، وكانت جزءاً من البلاد نفسها قبل الحرب، وفي بعض الحالات كانت تربط بعض الأفراد من الطرفين علاقات عائلية متينة. لكن الهزيمة في الحرب والاحتلال العسكري مثّلا مصدرين للانقسام المستمر لسنوات عدّة.
الخلاصة هي أنّ المرء ليس بحاجة لأن يكون عالم اجتماع أو سياسة أو طالب دراسات كولونيالية ليفهم لماذا يفشل الاحتلال العسكري في العادة. إذا كنت أميركياً، فعليك أن تقرأ قليلاً عن قانون إعادة الإعمار والتفكير في آثاره التي، إلى جانب آثار العبودية نفسها، استمرت لأجيال عدّة. إن لم يكن ذلك كافياً، فقُمْ بزيارة إلى مجتمع يتعرّض للاحتلال اليوم، وخُذْ وقتك في المرور على حاجز تفتيش. عندها يمكن أن تفهم لماذا لا يعتبر السكان المحليون أنّ القوات المحتلة جيّدة، ولا يكونون ممتنّين كما يعتقد المحتلّون أنّهم يجب أن يكونوا.
* عن «فورين بوليسي»: مجلّة أميركية تصدر كلّ شهرين، أسّسها صموئيل هانتنغتون، وتنشر مقالات لأكاديميّين ومفكّرين
ترجمة ديما شريف