مع أن غالبية أهالي الشمال اعتادوا الاحتفال كل عام بعيد الأضحى ببهجة أقل من تلك التي تغمرهم عادةً في عيد الفطر، فإن غياب أي مظهر احتفالي في «أضحى» هذا العام، بعد تراجع الاحتفاء الملحوظ في «فطره»، يعكس أكثر من مؤشّر لحال الناس
طرابلس ــ عبد الكافي الصمد
البقاع ــ رامح حمية
في الأيام الأخيرة من شهر رمضان من كل عام تتحوّل شوارع عاصمة الشمال إلى نوع من «كاراج» كبير للسيارات، فيما تكتظ شوارعها وأسواقها بالمارة والمتسوّقين لمناسبة عيد الفطر. لكن هذا المشهد التقليدي يتراجع حضوره بوضوح بعد شهرين و10 أيام، موعد حلول عيد الأضحى، لأن «العيد للأولاد بالدرجة الأولى، ومن اشترى له أهله ثياباً وأحذية جديدة في عيد الفطر فلن يحظى بذلك ثانيةً في الأضحى»، كما يشرح محمد حجازي، صاحب محل لبيع الألبسة الولادية في سوق البازركان الشعبي الشهير، وسط طرابلس القديمة، رادّاً السبب إلى «قلّة المصاري، لأن يللي عندو عيلة كبيرة وما في بجيبتو شي، من وين بدو يجيب حتى يشتري مرة ثانية؟». وكانت العائلات الفقيرة في الأحياء الشعبية في طرابلس ومناطق الريف في الشمال، تقوم بنوع من «التدبير الرقم واحد» قائم على تخبئة الثياب والأحذية الجديدة التي تشتريها لأولادها مباشرةً بعد عيد الفطر، وتمنع الأبناء من استخدامها قبل حلول الأضحى، لكي تبقى في عيونهم جديدة، برغم إلحاح الأولاد، فضلاً عن عدم رضاهم إلا بشراء غيرها في «العيد الكبير».
زينب عكاري التي يعمل زوجها موظفاً، تشرح هذا الواقع بوضوح وهي «تساوم» صاحب محل لبيع الألبسة الولادية في سوق البازركان على شراء بنطال وقميص جديدين لصغيرها، وأثناء «المجادلة» تفصح أن زوجها يعمل براتب شهري يبلغ 580 ألف ليرة، ولديهما أربعة أبناء، وأن ثياب «آخر العنقود»، التي اشترتها له في عيد الفطر ذهب بها إلى المدرسة، ويرفض أن يرتديها في عيد الأضحى. وبعد أخذ ورد مع البائع استقرت على أن تشتري له بنطالاً فقط، وعندما سألتها عاملة في المحل: «هل لدى ابنك قميص مناسب له؟»، ردت بصوت خافت: «رح شوف شو بعمل، بيدبّرها الله».
هذه الأوضاع المعيشية الضاغطة التي ترزح تحتها فئات كبيرة من المواطنين في طرابلس ليست غريبة عنهم، والجديد فيها هذا العام ليس الشكوى منها، بل التحسر على «الخيرات» التي غمرتهم في العيدين العام الفائت، عندما كان مرشحون للانتخابات النيابية يغدقون عليهم المساعدات بلا حساب، لأسباب متعلقة بالاستحقاق الانتخابي الذي كان لا يبعد سوى أشهر قليلة عن حلول العيدين. ففي هذا الإطار أشار عدد من «المفاتيح الانتخابية»، الذين فضّلوا عدم ذكر أسمائهم لأننا «لا نريد أن نكشف أوراقنا مبكراً حتى لا ينقطع رزقنا» في الانتخابات البلدية المقبلة، إلى أن «النواب الفائزين والمرشحين الخاسرين على السواء، أقفلوا عقب انتهاء الانتخابات مكاتبهم الخدماتية، باستثناء بعضهم، الذي استمر ولكن بالقطّارة».
يتذكر أحد هؤلاء بحسرة كيف كان مندوبو المرشحين «يطرقون باب بيتي، حتى في وقت متأخر ليلاً، ليسألوني «شو بدك»، وأن بعضهم كان يجول على المدارس الخاصة ليدفع أقساط متأخّرة عن طلاب لم يسدّدوها، وخصوصاً إذا كان أهلهم مقرّبين من أحد المرشحين، وذوي وزن انتخابي»، لافتاً إلى أن «بونات» خاصة لشراء الألبسة والأحذية الجديدة من محال معيّنة، إضافةً إلى «بونات» المازوت قبل فصل الشتاء، كانت توزّع مجاناً على المناصرين».
في غضون ذلك، وبينما تشهد المصارف ومحال الصيرفة ارتفاعاً في نسبة التحويلات المالية التي يرسلها مغتربون إلى ذويهم بمناسبة العيد، وهو ما يتّضح من اصطفاف مواطنين بالطابور أمام بعضها، وخصوصاً في شارع التل، برز في هذا الموضوع إعادة القوى السياسية الرئيسية في طرابلس فتح مكاتبها لتقديم بعض المساعدات للمواطنين قبل العيد، بعدما نبّههم مناصروهم في المناطق الشعبية، إلى أن «الناس بدأوا يفكرون هذه الأيام في توفير حاجاتهم فقط، بعد تراجع حدة التوتر السياسي، وبعدما وجدوا أن السياسة لا تطعم خبزاً»، لافتاً إلى أن اقتراب استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية، كان «الدافع الرئيسي وراء التفات السياسيين لمواطنيهم».
المشهد في سوق «الطرش»، أي البهائم عند المدخل الجنوبي لمدينة بعلبك، يعزّز مشهد الشمال لجهة الضائقة الاقتصادية. هكذا تسمع أحد الأولاد يسأل «بابا شو ما رح نشتري خروف؟»، فيأتي رد الوالد أحمد حمزة بصوت خافت: «لأ يا بابا هون غالي السعر، منشوف في مكان آخر». فقد فوجئ المواطنون بالسعر الذي وصل إليه كيلوغرام الخروف (الحيّ) أي 9000 ليرة، وبالتالي فإن أي أضحية لن تقل عن 300 ألف ليرة، الأمر الذي دفع برب العائلة للمغادرة، مؤكداً أنه سيكتفي يوم العيد بـ«لمّ شمل العائلة، وحفل غداء بدون أضحية، فالله لا يكلّف نفساً إلّا وسعها».
وحال حمزة من حال غالبية الناس هنا، فالعائلة المؤلّفة من 10 أشخاص ينبغي أن لا تقلّ أضحيتها عن 30 كيلوغراماً ليتسنى لها الحصول على 7 كيلوغرامات لحماً. ولقد تعدّدت أسباب ارتفاع الأسعار بدءاً من التجار السوريين الموجودين باستمرار لشراء المواشي، مروراً بالسعوديّين وحاجتهم إلى الأضاحي في موسم الحج، وصولاً إلى أنفلونزا الخنازير واللحوم البرازيلية.
جودت الحاج حسن أحد تجّار المواشي أوضح لـ«الأخبار» أن نسبة إقبال الناس على شراء الأضاحي «قليلة جداً»، فعشرة زبائن فقط قبل يومين على عيد الأضحى أكبر دليل على تراجع إقبال الناس، مشيراً إلى أنه في العام الماضي، قبل أسبوع من العيد، كان هناك حجز على أكثر من ستين أضحية. أما السبب، ففترة الشحّ التي مرت بها سوريا العام الماضي، ما دفع بالتجار السوريين إلى شراء الأغنام من لبنان. كما أن التجّار السعوديين وبسبب موسم الحج اشتروا حمولة أربع سفن، أضف إلى ذلك إقبال الناس على استهلاك لحوم الأغنام المحليّة بسبب إغراق المستهلكين باللحوم البرازيلية من جهة، وعزوف مستهلكي لحوم الخنازير عنها بسبب الإنفلونزا التي تحمل اسم الحيوان.


شمّ ولا تدوق

تشهد مناطق باب التبّانة والقبّة أكثر من غيرهما، مشهداً مرتبطاً بعيد الأضحى، يتمثّل في انتشار «زرائب» حُشرت داخلها «رؤوس» غنم معروضة للبيع لمن يرغب.
ومع أن هذه «الزرائب» غير قانونية، بعدما جرى تركيبها على عجل، وخلقت فوضى في شوارع هاتين المنطقتين وأزقّتهما، وأثارت فضول السكان فيهما، فإن أحد المواطنين لم يملك نفسه من القول أمام إحداها: "بعدما صار كيلو لحم الغنم بـ25 ألف ليرة، صارت «الفرجة» عليه هي خيارنا الوحيد!».