كان المشهد مغايراً أمس في مخيم البارد. حطّت شاحنتا الإسمنت الأُوليان على أرض الرزمة الأولى من الجزء القديم، معلنةً البداية الفعلية لإعادة الإعمار. وفي موازاة ذلك، نظّمت لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني مؤتمراً عن المشاريع الإنمائية في المناطق المجاورة للمخيم
نهر البارد ــ إيلي حنا
التاسعة عند مدخل مخيم نهر البارد. تأخّر وصول شاحنات الإسمنت إلى الرزمة الأولى من الجزء القديم. خاف المنتظرون من النكث بالوعد، ولكنّهم فضّلوا إلهاء أنفسهم، هرباً من الانتظار. وكالعادة، تلهّوا باستعادة تفاصيل بيوتهم التي كانت قبل «الحرب»، حيث قال عبد الناصر لوباني للواقفين إلى جانبه «بيتي سابع بيت من عند مدخل التعاونيات هونيك، بعيد كم متراً عن هون». يتنهّد لوباني عميقاً، مشيحاً بنظره نحو بقعة قريبة مسوّاة بالأرض، ثم يقول: «هون كان بيت عوني وإحنا ودار بنت عمّو لأبو الشوارب». التاسعة والنصف صباحاً. تطلّ من بعيد شاحنتان تحملان الإسمنت. لم يصدّق المنتظرون ما تراه عيونهم، وعلى الرغم من فرحهم بمجيء «الخير»، فإنّهم لم يستطيعوا السماح لأنفسهم بالتصديق أكثر. عاد الخوف إليهم بعد لحظات النشوة، فبدأوا يقولون بهلع: «أكيد هيدا العمار مش إلنا!». تطول الدقائق وتكثر التعليقات، قبل أن يُعلن أحد العاملين البدء. ما هي إلّا لحظات، حتى يعلن العامل العكس، صارخاً: «لحظة، هناك خطأ فني». ترتسم علامات السخرية والتهكّم على الوجوه، فيتحسّر أحدهم قائلاً: «الباطون مش قابل ينزل، إذا أول يوم وهيك». يسارعون إلى السؤال عما جرى، فيأتيهم الجواب أن «الباطون مجمّد ويحتاج إلى سائل ليسهل تدفقّه». وصل السائل. عاد الناس إلى انتظارهم، واصطفّ مسؤولو الفصائل والأونروا خلف شاحنة تستعدّ لصب الأرضية. ينادي المهندس المسؤول سائق الشاحنة «يللا»، معلناً صبّ أول طبقة باطون في المخيم القديم. بين جموع العاملين، تخترق بدرية عبد الرحيم منطقة الصب، ملامسةً بكفّها الإسمنت المتدفّق. تداعبه كوجه طفل، مطلقةً أمنيتها: «أشوف المخيم قبل ما موت».
هكذا، كان أمس مخيم البارد. ولكن، قبل أمس، كان الفرح ببدء صب أرضية الرزمة الأولى من البارد بالإسمنت قد بلغ ذروته في «منتدى المخيم الإلكتروني». فقد كتب أحدهم: «يدي ترتجف مش عارف شو أكتب من كثر ما أنا مبسوط»، فيما يقول آخر، كأنّه غير واثق بالإعمار، «إخوتي شباب البارد لا تفرحوا كثيراً لأننا لن نصدق الإعمار إلا عندما نرى البيوت ترتفع».
في الوقت الذي كانت فيه شاحنات الإسمنت تدخل أمس للمرة الأولى إلى البارد، عقدت لجنة الحوار اللبناني ـــــ الفلسطيني في فندق كواليتي ـــــ إن (طرابلس) ورشة عمل بشأن «المبادرات والمشاريع الإنمائية في المناطق المجاورة لمخيم نهر البارد في شمال لبنان». وعلى مدى ست ساعات متواصلة، تناوب المحاضرون على عرض آخر التطوّرات المتعلقة بالخطط التي وُضعت لمساعدة المخيم وجواره على النهوض. وفي هذا الإطار، أكد رئيس لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، السفير خليل مكاوي، أن «المشاريع المنجزة وما هو

رغم فرحهم بمجيء «الخير» فإنهم لم يسمحوا لأنفسهم بالتصديق أكثر

قيد الإنجاز، في المناطق المجاورة للمخيم التي تضررت إبان أحداث المخيم المأساوية، ننجزها بمبادرات سخية من الأشقاء العرب وأصدقاء لبنان في العالم، من منطلق تقديرهم لوطن العيش المشترك، وتأكيدهم أهمية استقرار لبنان بعد سنوات من الآلام»، مشيراً إلى أن «إعمارها يوازي إعمار المخيم». بعد ذلك، رأت منسقة هيئة المناصرة الأهلية لمخيم نهر البارد، نوال حسن، أن «المشاريع والمبادرات الإنمائية في المخيم رهن بإنهاء الحالة العسكرية والأمنية المفروضة عليه»، مطالبةً «بإلغاء هذه الحالة أو التخفيف منها». من الجهة المقابلة، طالب رئيس هيئة إنماء المنية والجوار، جوزف الحولي، وأمين سر جمعية سبل السلام الاجتماعية، برهان الخير، بتنفيذ توصيات الورشة السابقة التي عقدت في أيار الفائت، والتي «تقضي بتخصيص المبالغ الباقية من الجهات المانحة لتنفيذها في مجالات التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية». من جهته، عبّر رئيس جمعية النهضة الاجتماعية في المنية، عبد الحكيم قاسم، عن «تطلعنا إلى مشاريع إنمائية تُعنى بالبشر والطاقات الشابة، لا بالحجر فقط». وكان قد سبق انطلاق الورشة اعتصام لتجار المخيم في باحة الفندق، طالبوا خلاله بالتعويض عليهم، وإفساح المجال أمام «الإخوة» اللبنانيين للدخول إلى المخيم.