خالد صاغيةأطلّ على اللبنانيّين من جديد السيّد مكسيم شعيا. هذه المرّة، لم يتّصل برئيس الجمهورية من صقيع القطب، لكنّه ظهر على الشاشة بملابسه القطبيّة ليحدّثنا في عيد الاستقلال عن قطعة القماش التي حملها معه خلال رحلته المضنية، والتي كانت كفيلة بإزالة الصعاب من أمامه. قطعة القماش تلك لم تكن إلّا العلم اللبناني نفسه. وقد مثّل تصميم شعيا على رفع العلم فوق جبل الجليد، دافعاً لإكمال الرحلة والتغلّب على الصعاب. وفي النهاية، حقّق مكسيم حلمه، وشكر ربّه قائلاً: «اللّه كريم». ومع عبارة «اللّه كريم»، نفهم أنّ هذا الإعلان ليس من إعداد مديريّة التوجيه في الجيش اللبناني، ولا من منظّمي «سيرك» جادّة شفيق الوزّان، بل هو إعلان لأحد المصارف اللبنانية، التي يمثّل السيّد شعيا أحد وجوه علاقاته العامّة.
رسالة الإعلان واضحة: المصرف المذكور يريد أن يقنعنا بأنّ «الله كريم»، وبأنّ العلم اللبناني أغلى ما في الحياة، ويستحق التضحية من أجله، وإن تطلّب ذلك الوصول إلى القطب. ونحن المشاهدين، تأثّرنا كثيراً بالإعلان، وعُدنا إلى إيماننا باللّه وبالوطن وعَلَمه. لكنّ حرارة الإيمان هذه لم تمنعنا من طرح بعض الأسئلة. وهي أسئلة تزيدها بعض الأرقام إلحاحاً، إذ حقّق المصرف المذكور في الأشهر التسعة الأولى من عام 2009 أرباحاً بلغت 212,8 مليون دولار أميركي. وبلغ حجم ودائعه 21,2 مليار دولار أميركي، وحجم ميزانيّته 24,7 مليار دولار. فلماذا، أوّلاً، يتدفّق كرم اللّه على المصارف وحدها؟ ثانياً، ما دام حبّ الوطن يجتاح القطاع المصرفي، فلمَ لا تضحّي المصارف في سبيل الوطن؟ فلننسَ التضحية، ولنطلبْ فقط أن تتنازل المصارف وتعمل كمصارف، أي «كل مين يشتغل شغلتو».
فعلى حدّ علمنا، يتحلّى النظام الاقتصادي العالمي الحالي بميزة عن النظم التي سبقته، تتلخّص بالقدرة الفائقة على تمويل مشاريع ضخمة. وهذا التمويل يقوم على وجود جهاز، فلنسمّه مصرفاً، تتجمّع فيه كلّ مدّخرات الأفراد والمؤسّسات. فإن وفّر كلّ لبناني دولاراً، تجمّع لدى المصرف ثلاثة ملايين دولار يستخدمها لتمويل المشاريع لإطلاق العجلة الرأسمالية في البلاد. في لبنان، تتدفّق الودائع إلى المصارف. تتراكم. تفيض عن الحاجة. ولا يبصر أيّ مشروع النور. يتساءل المرء ماذا يفعلون داخل تلك الأبنية الأنيقة المنتشرة داخل كلّ حيّ وزاروب. أهي مجرّد إدارات للتشجيع على الاستهلاك عبر القروض الشخصيّة؟ أم مجرّد أماكن صيانة لماكينات الـATM؟ أم أنّ موظّفيها مجرّد عاطلين من العمل يستفيقون كلّ ستّة أشهر لإقراض الدولة، ويستفيقون بعد ستّة أشهر أخرى لجني الفوائد؟
المصرف اللبناني، تماماً كالحمّص اللبناني، اختراع لبناني. إقراض من دون مخاطر. الزبون مضمون. الفائدة مضمونة. أمّا قطعة القماش، فللمواطنين أن يتسلّوا بها كي ينسوا كيف تتبخّر رواتبهم كلّما ارتفعت أرباح المصارف. صدق مكسيم شعيا حين قال: «اللّه كريم».