إنه الحلم نفسه الذي يراود كل فقير في جنوب الكرة الأرضية. حلم الرحيل إلى «الشمال» الغنيّ. يُخيّل إليهم أن الجنة هناك. إلى ماذا يتطلع ابن القارة السمراء؟ فإن جنى الفتات، ظنه كنزاً لشدّة حرمانه
شهيرة سلوم
الوسائل الشرعية للهجرة متوافرة للميسورين فقط، أولئك الذين يعرفون كيف يحصلون على تأشيرة تسمح لهم بدخول بلدان الجنان الموعودة من أبوابها، أما التسلل فسبيل نظرائهم الفقراء. لكن مغامرة من هذا النوع حافلة بالمخاطر. لا أمان لأحد: من يعبرون أو من يقودون التسلل. كثيرون منهم يموتون كل يوم. نقرأ عنهم في الصحف: عبّارة الموت، قوارب الموت، جثث على الشاطئ الإسباني، سودانيون متجمّدون في ثلوج الجبال التي يعبرونها. كائنات صغيرة هشة تقع في شباك «العنكبوت». وللعنكبوت، أو تجار الهجرة غير الشرعية، شبكات بدلاً من واحدة. شبكة عابرة للدول، تتعاون في ما بينها وداخل الأجهزة الأمنية للدول التي يمر «الزبائن» في أراضيها.
وإن كانت بلدان الشمال، الصناعية منها خاصة، تغضّ البصر عن حدّ معيّن من هؤلاء المهاجرين، الذين سيعملون يداً عاملة من دون حقوق، لكون أعمالهم في «الأسود»، أي في الخفاء، إلّا أن لكل شيء حدوداً. فقد تفاقمت الهجرة غير الشرعية (بالتزامن مع تزايد استغلال الشمال لموارد البلدان الفقيرة) حتى أصبحت مثلاً، مشكلة تهدّد الدول الأوروبية التي وجدت نفسها مضطرة إلى وضع بند الهجرة على سلّم أولوياتها في أي اتفاقيات ثنائية أو جماعية تبرمها مع دول «الجنوب» الآسيوية والأفريقية منها، خزّان الهجرة غير الشرعية. بل إنها أخذت تقدم مساعدات «لدفع التنمية» في تلك الدول، أو بالأحرى لدفع أمواج جياع العالم الثالث، عنها.
لبنان ليس بمنأى عن تلك الموجة. فشبابه يحلمون أيضاً بجنة الشمال. مغامرة «جبريل» (اسم مستعار)، بدأت من قرية بقاعية هادئة. سمع الشاب وابن عمه، وصديق فلسطيني بأن رجلاً يدعى أبو ديب، يساعد «الشباب» على الهجرة. سيوصلهم إلى الدنمارك، وهناك ستولد الحياة. لكن أبو ديب في اليونان مع عائلته. لذا، كان عليهم توفير ألفي دولار عن كل شخص، وتسليمها إلى أحد معارفه. قام الشباب باللازم، وأطلعوا عائلاتهم على أنهم سيشدّون الرحال للهجرة. لا هم أو عائلاتهم تصوروا مخاطر مغامرة كهذه. جلّ ما فكروا فيه هو الوصول إلى بلاد الحسناوات الشقراوات، والمباني العملاقة التي تنطح السحاب، فرص العمل في مدن تفوح منها روائح الآلات الصناعية وضجيجها، وطبعاً أموال كثيرة.
عبر الثلاثة الحدود السورية بطريقة شرعية. أتى بعدها رجل من عناصر أبو ديب، وأقلّهم بحافلة صغيرة إلى منطقة باب الهوا. تسلّم المهمة بعدها رجل ثانٍ، انتقلوا معه إلى منزل على متن الدراجات النارية، قبل أن يتولّاهم شخص ثالث، وفّر لهم المنامة.
في اليوم الثاني، كان قد تجمّع في المنزل 17 شخصاً. كل مهرّب كان يأتي بمجموعة. في الليل، انطلق المهاجرون سيراً على الأقدام في مناطق جبلية وعرة، بدون ماء أو طعام وليومين.
قطعت المجموعة الحدود التركية، ووصلت أنطاكية. هناك تسلّمهم مهرّب تركي، أوصلهم إلى حافلات نقلتهم إلى مدينة أزمير. ثم أقلّهم تركي آخر إلى فندق، لم يُسألوا فيه عن أي أوراق ثبوتية، ظلّوا فيه 8 أيام على نفقتهم. في هذا الوقت انضم إلى المجموعة جدد من... السودان ومصر والجزائر وباكستان وأفغانستان وتونس، حتى أصبحوا 29 شخصاً.
انطلقت بعدها المجموعة في حافلات إلى نقطة قريبة من البحر. وهناك تجمّعوا في منزل، وزاد عددهم حتى أصبحوا 40 شخصاً، بينهم 7 فتيات، تراوح أعمارهن بين 17 و21 عاماً، إضافةً إلى رجل وزوجته وطفلهما، الذي لا يتجاوز 15 يوماً. ولهذا الطفل حكاية. كان من المفترض أن يهاجر أبواه في الرحلة السابقة، ولكن المخاض أتى الأم وهي في عُرض البحر، فأُعيدت وزوجها لتلد، ثم تتابع الرحلة.
خرج الرجال لنفخ المركب المطاطي، الذي سينقلهم إلى اليونان، وصعدوا إليه: 40 شخصاً، برغم تحذير «أبو ديب» للشباب أن لا يصعدوا إن كانت الحمولة تفوق 25 شخصاً.
عبروا الحدود التركية. يروي ابن عم جبريل، ولنقُل إن اسمه عمر، أن للمهربين نفوذاً مهماً داخل الأجهزة الأمنية التركية. سار المركب في اتجاه اليونان. وفي عُرض البحر، تعطّل. فأصلحه أبو علي ورفاقه، وحالما وصلوا إلى 500 متر من شواطئ اليونان السادسة صباحاً، انقضّت عليهم الشرطة اليونانية، فما كان من جبريل وعمر، وخوفاً من إعادتهما بالمركب نفسه، إلا أن مزقا المركب بسكين. «غرق» الجميع، فهرعت الشرطة إلى انتشالهم، وقادتهم إلى مخفر جزيرة ساموس. وأحضرت مترجماً لبنانياً. وفي التحقيق، اتفق الجميع على «أننا فلسطينيون، وأوراقنا غرقت في البحر».
الشاب الفلسطيني، الحقيقي، اشتبك مع شرطي شهر سلاحه بوجهه. «أنا فلسطيني. قال له، انظر ماذا يجري لنا، اُقتلني، أليست الشهادة في سبيل لقمة العيش أسمى الشهادات؟».
ثم نقلوهم إلى المستشفى، حيث أُجريت لهم فحوص قبل نقلهم إلى مخيم لاجئين تابع للأمم المتحدة، وأخذوا بصماتهم. هناك لقوا معاملة جيدة، واهتم بهم الجنود الدوليون لمدة 6 أيام. يقول جبريل: «وفّروا لنا كل شيء، وجبات جيدة، شفرات حلاقة، ومعجون أسنان وشامبو... قهوة، شاي، لكن النسكافيه على نفقتنا».
بعدها، أوصلتهم الشرطة إلى الباخرة، وأعطتهم أوراقا ثبوتية ليجولوا بها لشهر. من ملك منهم المال قطع تذكرة، وانطلق بالباخرة إلى أثينا. هذه كانت حال جبريل ورفيقيه. أما من لا مال لديه، فبقي على الشاطئ بانتظار من يسعفه. هكذا، لاقى كل مهرب مجموعته. وذهب جبريل ورفيقاه مع أبو ديب.
في الصباح، اتصل الرفاق بالأهل ليحوّلوا لهم مالاً. فأُرسل لكل منهم مبلغ 1000 دولار. استأجروا منزلاً، لا بل غرفة، بل سريراً.. لثلاثتهم! ومعهم في الغرفة 4 سودانيين. في الغرفة المجاورة يقطن شباب سودانيون يعملون في تزوير الوثائق للمهاجرين غير الشرعيين.

يئس الشباب فقطعوا تذاكر إلى لبنان فسألهم الأمن العام كيف وصلوا وهم لا يملكون تأشيرة
كان جبريل ورفاقه من المحظوظين. فقد أُخبروا هناك، أن مجموعة من 55 شخصاً، أغلبهم من مصر، أتوا بعدهم، لكنهم غرقوا جميعاً. الشرطة اليونانية اتصلت بذويهم، ودُفنوا في مقابر يونانية.
وفّر أبو ديب للشباب جوزات سفر مزورة. وقطعوا التذاكر وصعدوا القطار، وإلى فرنسا سِر. لكن «يكاد المريب أن يقول خذوني»، هكذا، شكّت الشرطة الفرنسية فيهم، واقتادتهم إلى المخفر.
في التحقيق، خرس الثلاثة. أُخذت بصماتهم، فتطابقت مع تلك التي أخذتها الشرطة اليونانية. فردّوهم من حيث أتوا. وعاد الثلاثة إلى سريرهم اليوناني. في هذه الأثناء، كان أبو ديب قد غادر نهائياً مع أسرته إلى ألمانيا. فكان عليهم الاعتماد على أنفسهم. هكذا، تدبّروا، بعون الجيران السودانيين أوراقاً مزوّرة إلى إيطاليا، وركبوا الباخرة. وحالما وصلوا إلى الشواطئ الإيطالية أمسكتهم الشرطة. وأعادتهم الى اليونان.
يئس الشباب. فقطعوا تذاكر إلى لبنان. وعندما وصلوا إلى مطار بيروت الدولي، سألهم الأمن العام كيف وصلوا وهم لا يملكون تأشيرة؟ أخبرهم جبريل القصة، مؤكّداً أن المهرّب سوري، وأن أي أمور غير شرعية لم تجر داخل لبنان. فتركوهم يؤوبون، ولكن من دون أحلامهم المتكسّرة.


إلى الورشة دُر

كان جبريل يتحسر على عدم وجود كاميرا بحوزته، ليوثّق مغامرته بالصور. عندما عاد خائباً، وصل منزله فجراً: فتح الباب، فرأى والده يستعد للذهاب إلى العمل. رمى نفسه عليه، يحضنه ويقبّله، لكن الأب بقي مشدوهاً لدقائق، قبل أن يهرع لإيقاظ العائلة. أم جبريل، كانت قد ودّعت ابنها البكر، لم تعرف أنه كان سيهاجر بهذه الطريقة. وما أدراها، تلك تعقيدات لم تكن لتفهمها. فأرض الله واسعة، وهي لخلقه. ورجع جبريل إلى ورشته، وشرفته. إلى ابن أخته الصغير جبريل أيضاً، يلاعبه. عاد يستمع إلى مطربي «آلام» طبقته، مثل مجيد الرمح «ولا ترحل»، «شو بدنا نساوي العمر رايح»، و«مرت الأيام وأنا وحدي». وكان للنرجيلة نكهة أخرى.
شقيقه التوأم، أبو زيد الهلالي، كان يستعد للّحاق به. هو من أوصله إلى نقطة المصنع، كان سيبيع عدّته هو الآخر ويهاجر بطريقته. لكن عودة جبريل تلك «إيد من ورا وإيد من قدّام» بدون «هامر» أو حسناوات، جعلت أبو زيد ينهض ذاك الصباح نشيطاً، قانعاً... وإلى الورشة دُر.