مايا ياغيوقفت طويلاً أنتظر السرفيس. بدأت أشدّ على أصابعي بحركات غريبة، لم أعرف سببها: هل هو طول الانتظار، أم لأنني الفتاة الوحيدة التي تعود إلى منزلها متأخّرة في المساء. قد يكون الموضوع عادياًًًًًًً بالنسبة إلي، لأن اعتباراتي مختلفة عن بيئة ولدت وترعرعت فيها، لكنه بالتأكيد ليس عادياًً بالنسبة إلى أم محمد، وأم حسين، وجاراتي وجيراني، الذين لا يرحمونني من تعليقاتهم.
في مدينة النبطية، من اللافت أن تجد فتاة تجول بعد وقت الغروب في الشوارع، واللافت أيضاًً مراقبة النظرات التي يوجّّهها الناس إليها. كثيراًً ما أشك في نفسي. هل هناك ما هو غريب في شكلي؟ أم أن فكرة انتظار السرفيس في وقت متأخّر هي الغريبة عندهم؟ في الحقيقة، لا أعلم، لكن كل ما يزعجني في الموضوع هو انصياع الفتيات لهذه القاعدة الاجتماعية رغم التطور الذي طرأ عليهن في مدينة النبطية. فهن متعلمات، ويعملن في مهن متنوعة، لكن بعضهن يلتزم قوانين المجموعة.
انصياع تقابله نظرة الشفقة المزعجة التي يرمقهنّ بها المارة. حتى «الفان» الذي أستقلّّه مساءً من بيروت إلى النبطية، يكون في معظم الأحيان خالياً من الفتيات، ويكون عليّ دائماً أن أروي ظمأ الركاب الفضوليين المحيطين بي، الذين يصرون على التدخل في خصوصياتي وسؤالي عن سبب عودتي متأخرة! فالسلطة الأبوية هواية يمارسها الجميع وتمثل وطأة وعبئاً أكبر من تدخلات أهلي وأفراد عائلتي الذين غالباً ما أجدهم في انتظار عودتي مساءً، وقد أعدّّوا لي لائحة استجواب طويلة، لا أعرف ما سببها، أهو الخوف والحرص عليّّ؟ أم خوفهم من نظرة الجيران والمجتمع الجنوبي وألسنتهم؟
أما في طريق العودة، وقبل أن أستقل الحافلة، فالكثير من سيارات «ولاد الحلال» تستوقفني، يتمهّل السائق وهو يمر بقربي، وبسؤال لا يكون بريئاً دائماً يسألني: «أختي وين واصلي؟ تفضلي». أحياناً، وبما أن سماتهم على وجوههم، يكون جوابي لائقاً، ومهذباً، وفي أحيان أخرى، تكون إجابتي مجرّد نظرة قاسية وحاسمة أرمق السائق بها قبل أن أدير وجهي عنه.
مجموعة من القيود عليّّ أن أتعامل معها كل يوم، وأنا أحترم مجتمعاً يعجز عن التعامل مع التطورات التي تطرأ عليه. فقد أصبح مطلوباً من المرأة أن تعمل، وأن تسهم مادياًً في المنزل، بينما ظلت تسري عليها القوانين الاجتماعية النمطية القديمة التي تكبّّّل حركتها.