دمشق ــ محمد دحنوندمشق تغتسل بمطرها. أفرح لها. تعجبني السذاجة الجماعيّة التي يبديها سكانها، يختبئون، يهرولون، يرتجلون مظلات من الجرائد اليومية ومن الأكياس التي يحملونها، ويبدون انزعاجاً طفوليّاً من مطر كانوا ينتظرونه بشغف. دمشق الحادية عشرة ليلاً مع المطر هي دمشق السابعة والنصف مساءً في رمضان، أستعيد في هاتين اللحظتين، اللتين لا تتكرران كثيراً، ملكيتي للمدينة. شوارعها الفارغة لي، ساحاتها التي جلدتها خطوات مسرّعة في النهار لي، أحلامها لي، فراغها لي. أركب خلاء شوارعها، أفلّي أحياءها القديمة. في النهاية، أنا لست ابنها، أتعرّف إليها لا لكي تتبنّاني فقط بل كي أبرر لها مروقي وثوراتي الصغيرة عليها في لحظات كثيرة. دمشق السابعة والنصف في رمضان والحادية عشرة ليلاً مع المطر هي مدينتي، خارج هاتين اللحظتين، أتعثر بخطاي، وأرتبك. أنا في الأساس هش، صخب المدينة، ازدحامها العشوائي، وفوضاها اللاإنسانيّة تقتل فيّ أي ميل للتأقلم. فأنا لم أتعلّم المشي في شوارع مزدحمة بخطوات أناس لا ينافس عددهم سوى كمية همومهم، لا أعرف كيف أنسلّ من بين هيجانات أحلامهم ووقاحتها أحياناً. أقدّر الخجل الذي بدا لي أخيراً كأنه فضيلة أخلاقية، إذ قلت لنفسي إن القيم لا تستمد مضامينها من التربية المدرسيّة، بل إنها تتغذى من المعاني المتوافرة في سياق الحياة. هنا، يبدو الخجل كما الصدق والشجاعة والشهامة، مجرّد امتناع عن أذية الآخرين.
مطر، براءة أولى تجعل التسامح تميمة خالدة تتفتح في قلب بلّله المطر، أيقظه، غسله. أسامح نفسي أوّلاً، فأخطائي بحق نفسي أكثر بكثير من أخطاء الآخرين بحقي، أبرر لنفسي قذارتي، فأستعين بميلان كونديرا: «حياة واحدة لا تكفي كي نعرف أن ما نقوم به هنا والآن هو صحيح أو خاطئ». مطر ينتشي بحضوره في شوارعي، وأنتشي بحضوره فأقرّ لنفسي بروعة اللعبة التي اخترعتها مع أصدقائي: أسألهم في أي يوم من أكتوبر سينزل المطر، فإن كان اليوم الذي اختاروه قبل اليوم الموعود أخبرهم أنهم متأخرون عن أحلامهم، وإذا جاء يوم المطر بعد يومهم المختار أخبرهم أنهم قد ضيّعوا أحلامهم. ولكن ماذا عنّي؟ أحمل حلمي وأنتظر لحظة المطر، لأكتشف بهائي مجدداً وأكتشف هبائي مجدداً.