وقعت جريمة قتل أواخر السبعينيات، ولا تزال ملابساتها غامضة. قُتل أشخاص اتُّهموا بأنّ لهم صلة بالقضيّة، وبقي مشتبه فيه كان خارج لبنان. عاد منذ سنة فأوقف في المطار. يحاكم اليوم حسين غ. وسط تضارب في المواقف حياله: بريءٌ وضحية أم قاتلٌ بقصد السرقة؟
رضوان مرتضى
أثناء توجّه عفيف س. بتاريخ 24 شباط عام 1977 برفقة حسن ح. إلى بيروت عبر طريق الطيبة، اعترضهما حاجز مسلّح. تقدّم منهما شخصان ملثّمان، طلبا أوراقهما، فتّشاهما، فعثرا مع الأوّل على 5 جوازات سفر قال إنها تعود لأقاربه، اعتقلاهما بقوة السلاح، ثم اصطحباهما وسلّماهما إلى ثلاثة مسلحين آخرين. هرب حسن، فيما لاقى الآخر حتفه بعد طعنه بحربة في أنحاء مختلفة من جسده. عُثر على جثّته بعد عدة أيام مدفونة في أحد الأحراج في وادي القصير.
المعلومات المذكورة اتفق عليها أطراف النزاع، لكن هوية القاتل الحقيقي لا تزال موضع خلاف. هل هو الماثل بين القضبان أم شخص آخر؟ فالحلقة المفقودة في سيناريو القتل تبرز في ما جرى بعد الاعتقال آنذاك.
أول ما سيتبادر إلى الذهن أن المرافق للقتيل يعرف حقيقة ما جرى، لكن هناك شكوك تثار حيال حقيقة هربه. إذ كيف يترك القاتل شاهداً ليدينه؟
وتُضاف تساؤلات طرحها أهل المشتبه فيه عن علاقة بين القتيل وجيش سعد حدّاد، إذ تحدّثوا عن علاقة «مشبوهة تربط بين عفيف (المغدور) وتاجر مخدّرات يدعى محمد ب. ذي علاقة جيّدة بإسرائيل». ما هي حقيقة هذه الرواية، وهل تقف وراء مقتله؟
يتناقل الطرفان روايتين متناقضتين حيال هويّة القاتل. الرواية الأولى نقلها شاهد الادعاء الذي كان مرافقاً للمغدور، وتشير إلى أنّ الملثَّمين أوصلاهما إلى ملجأ في بلدة الطيبة حيث سلماهما لثلاثة مسلّحين آخرين. لكنه يقول إنه لم يتعرف إلى أيٍّ منهم. وأضاف أنهم ضربوهما في الملجأ وسلبوهما المال الذي بحوزتهما وأغراضاً أخرى. ويتابع الشاهد: وصل مسلّح بقي مجهول الهويّة ونقل للآخرين جملة: «بقلّك أبو عرب بعد ساعة بدّو يكون مستوي». بعد الملجأ نقلهما المسلّحون بسيارة لاند روفر إلى أحد الأحراج، ضربوهما وطلبوا إليهما أن «يتشهّدوا على روحيهما». بعد ذلك، أخذ أحد المسلّحين المغدور بعيداً؛ وعاد بعد برهة وبيده حربة ملطّخة بالدماء. واستطاع الشاهد (حسن) أن يفلت من المسلحين، فقد فرّ هارباً بعد مغافلتهما عند حلول الظلام. اختبأ حسن في أحد الحقول، ثم مشى إلى أن وصل إلى زوطر ومن هناك قصد بيروت وأعلم شخصاً يدعى محمد ب. وذوي القتيل بالجريمة.
يقول حسن إنه لم يرَ وجوه المسلّحين، لكنه عرف منهما حسين غ. من صوته، وقال كذلك إنه سمع عفيف يقول لهما: «ولو يا حسين، ولو يا إبراهيم، نحن ولاد بلد وبنعرف بعضنا».
زارت «الأخبار» المتهم (حسين) في سجن رومية. قال إنه كان في النبطية يوم الجريمة حيث يعمل في توزيع جريدة «بيروت» (التابعة لحزب البعث العراقي). وتساءل: «هل أكون قاتلاً وآتي من السعودية إلى السجن بقدمي إن لم أكن واثقاً من براءتي».
كذلك قصدت «الأخبار» قرية كفركلا للقاء المسؤول العسكري في حزب البعث العراقي لمنطقة مرجعيون آنذاك، حسن حلاوي أو الرفيق «أبو تحرير». فالرفيق كان المسؤول المباشر عن المجموعة التي اعتقلت الضحيّة عفيف س. وصديقه حسن ع. ح. في أواخر السبعينيّات.
«أبو تحرير» لم يكن موجوداً في الطيبة يوم وقوع الجريمة، كان برفقة مسؤولين في الحزب عند رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، يطلبون الرجال والسلاح لتحرير كفركلا. وكان نائبه محمد شرف الدين الملقّب بـ«أبو عرب»، يحل محله. لكن «أبو تحرير» ينفي احتمال أن يكون حسين غ. قد قتل عفيف س. أو فكرة مشاركته في الجريمة، لأن الأخير حسب قول الرفيق كان في النبطية يوم الجريمة لاشتغاله بتوزيع الجرائد فيها. أما عن هوية القاتلين، فيجزم «أبو تحرير» بأنهما غسان صالح وخليفة التونسي (تونسي الجنسية)، المنتميان إلى جبهة التحرير العربية.
ويضيف «أبو تحرير» قائلاً إن عفيف أوقف للاشتباه بعمالته، بعدما عُثر معه على 4 جوازات سفر لأشخاص مطلوبين لانتمائهم إلى جيش سعد حدّاد. كذلك ذكر أن عفيف كان ينقل الجوازات «لتاجر المخدّرات محمد ب». ويوضح أن «أبو عرب» أعطى أوامره بعدم المسّ بالموقوفين لحين وصوله، لأن لدى عفيف بطاقة انتماء إلى جبهة التحرير العربية. وذكر أن «أبو عرب» طلب إلى غسان والتونسي أن ينقلاهما إلى منزله، لكن العنصرين لم يمتثلا للأوامر واتّجها إلى علمان القصير حيث صُفِّي عفيف.
يذكر «أبو تحرير» أن حسن بقي مع خليفة التونسي، فيما تولّى غسان التحقيق مع عفيف لمعرفة علاقته بالجوازات، على اعتبار أن الأخير عضو في حزب البعث العراقي. ويروي المسؤول البعثي أن عفيف تمكن من انتزاع حربة كانت بحوزة غسان أثناء التحقيق، لكن الأخير استطاع أن يستعيدها، وبدأ بطعن عفيف بها إلى أن هوى الأخير أرضاً. عاد غسّان والحربة في يده تقطر دماً. لم يكن غسان مسلّحاً بغير الحربة، فطلب إلى خليفة التونسي قتل الشاهد، لكن الأخير رفض. عندها هجم غسان على الشاهد حسن ليقتله بالحربة فمنعه التونسي، وهدده بأنه سيقتله إن هو قتل الموقوف. طلب التونسي من حسن الهرب. كان التونسي يوجّه سلاحه باتجاه غسان عندما بدأ حسن بالركض، واستمر كذلك إلى أن توارى الأخير عن الأنظار. ويتابع «أبو تحرير» متهكّماً على ادّعاء الشاهد: «من يظن نفسه ليغافلهما ويهرب إن لم يسمحا له؟».

يقول حسن إنه لم يرَ وجوه المسلّحين، لكنه عرف منهما حسين غ. من صوته
ويروي حلاوي أن أربعة أشخاص من أقارب عفيف قصدوه في اليوم التالي حاملين ورقة رجاء بالإفراج عن عفيف، على أن تعود محاسبته إلى القيادة. يكمل: «ذهبت للسؤال عنه، فأخبروني أن غسان كان مسؤولاً عنه. هممت بالذهاب للبحث عن الأخير، فرأيت «أبو عرب» يتّجه نحوي وهو يحمل رفشاً ومنكوشاً. أخبرني أنه آت من «الجنازة»، قال إنه دفنه وأخبرني أن القاتل هو غسّان صالح».
في اليوم التالي حضر عدد من أبناء كفركلا للبحث عن الجثة، شقيق عفيف وحسين غ. كانا من بينهم. أخذوا دبّابة تابعة لجيش لبنان العربي ليقوموا بعملية البحث، ووجدوا الجثة.
كشف «أبو تحرير» للأخبار عن أسماء أربعة أشخاص قتلوا إبراهيم هاشم وغسّان صالح (المتهمان بقتل عفيف)، وعدّ ذلك بمثابة إخبار للنيابة العامة (تتحفّظ «الأخبار» على نشر الأسماء، إذ يفترض أن يرسلها حلاوي بنفسه إلى السلطات القضائية المختصّة).
السنوات الثلاثون مرّت ثقيلة على أبناء الضحية كما على المشتبه فيه وذويه. فأهل القتيل عبّروا لـ«الأخبار» عن آلامهم لأن من نشأوا على الاعتقاد أنه «سلب روح» والدهم، لم ينل جزاءه ولا يزال حرّاً طليقاً، فيما يرى ذوو المتهم أن ابنهم الموقوف دفع ثمن تهمة ظالمة سنين طويلة قضاها بعيداً عن أهله ووطنه، وعندما عاد سُلِبت منه سنة إضافية ـــــ حتى الآن ـــــ بسبب التوقيف الاحتياطي.
عُقدت جلسة في محكمة جنايات بيروت أمس، برئاسة القاضي حاتم ماضي لبحث هذه القضية، لكن القاضي ماضي أجّل الجلسة إلى تاريخ التاسع من الشهر المقبل لعدم إتمام التبليغات. الأنظار تتجه نحو القضاء الذي يؤمل منه أن يضع الأمور في نصابها فينزل العقاب بحق المتهم إذا ثبت تورّطه أو يخلي سبيله ليعود إلى أهله بعد 33 سنة من الغياب.


عميل أم شهيد؟

يُقال إن محمد ب. كان عريفاً في الجمارك اللبنانية، استقال وانتقل إلى تجارة المخدرات بين لبنان وإسرائيل وأمريكا. يعيد ذيوع صيته في الجنوب إلى علاقته بإسرائيل وجيش سعد حدّاد. وبعيداً عمّا يقال، هناك من يعدّه «وجيه بلد»، ويختصر علاقته بإسرائيل بأنها من باب المصلحة لإمرار الصفقات، بل ويذهب أبعد من ذلك باعتباره بطلاً استغلّ المخدّرات لتجنيد عملاء للمقاومة داخل إسرائيل. اعتقلته إسرائيل بعدما رفض التعاون معها، فسجنته وقضى في سجونها.
في المقابل، يعدّه كثيرون عميلاً إسرائيلياً، بسبب علاقاته الرفيعة المستوى مع الإسرائيليين والعملاء.
وعن وفاته في سجن إسرائيلي، يردّ هؤلاء بقولهم: «سجن لأنه لم يعطهم أسماء تجار المخدّرات في إسرائيل، ومن ثم صُفِّي».
وقد تسلم لبنان جثّته في إحدى عمليات التبادل مع حزب الله.