خالد صاغيةبات مصير جوني ناصيف معروفاً. دُفن أمس في بلدته، بعدما أثبتت فحوص الحمض النووي أنّه ليس مسجوناً في أيّ مكان، بل قضى شهيداً في 13 تشرين الأوّل 1990. المقبرة الجماعية التي اكتُشفت في ملعب وزارة الدفاع في اليرزة عام 2005، كان جوني إحدى جثثها. وصلت رحلة البحث التي أضنت والدته، فيوليت، إلى نهايتها، بعد 19 عاماً. لكنّ أمّهات آخرين ما زال مصير أبنائهنّ مجهولاً.
خلال العشرين عاماً الماضية، طوّر اللبنانيون آليّات عديدة للنسيان. حربهم التي انتهت فجأةً أُلقيت تبعاتها على الآخرين، أولئك الغرباء الخبثاء المجرمين، إضافة إلى مؤامرات الدول الكبرى. بات بإمكان الشعب البريء من دماء الصدّيقين أن يعود إلى حياته الهانئة في كنف العرزال، وأن يتفرّغ لصناعة الأطباق العملاقة من الحمّص والتبّولة.
التطابق شبه الكلّي بين أمراء الحرب وأمراء الطوائف منع أيّ شكل من أشكال المحاسبة. رغبة اللبنانيّين في تبرئة أنفسهم، وفي فتح صفحة جديدة، أسهمت في تغليب النسيان على الذاكرة. الجرّافات اللاهثة وراء الربح نظّفت المكان. ارتفعت أبراج تحرسها مساجد وكنائس متجاورة. تأمّل الغول العقاري المشهد، ورأى أنّ ذلك حسن. سمّيت تلك الحقبة سلماً أهليّاً.
أيّ محاولة للنقد أو للفهم كانت تُصنَّف في باب نكء الجراح. خلع المتحاربون بزّاتهم العسكريّة، وارتدوا ربطات عنق، واتّخذوا لأنفسهم صوراً تذكاريّة. كان كلّ شيء جاهزاً لاستقبال لبنان الجديد. وفي غمرة الاحتفالات، أُهملت بعض التفاصيل الهامّة. وهي هامّة لأنّنا كلّما ابتعدنا عنها، اقتربت هي منّا، لتذكّرنا بنفسها وبأنفسنا.
ما دامت الطوائف تحمي زعماءها، لمَ لا يقدّم كلّ أمير حرب كشف حساب؟ لمَ لا يجري الاعتذار وطلب الغفران؟ لمَ لا تُحفَر أماكن المقابر الجماعيّة؟
مفقودو الحرب الأهليّة يشكّلون اليوم أكبر حزب في لبنان. وهو حزب متعدّد الطوائف. أدرك فظاعة الحرب. ورفض كلّ الشعارات التي تتحوّل سريعاً إلى حمّامات دم. وبحكم تجربته، أيقن أهمية وجود الدولة القوية التي تحمي أبناءها. إنّه الحزب الوحيد الذي يمكنه أن يبني السلم الأهلي الحقيقي. انبشوا المقابر الآن.