لم تنزو فاطمة نصر الله في ثياب الحداد، ولم تفقد ابنها في ساحات المقاومة، لكنها تحتفل بيوم الشهيد. والدة المقاوم، الذي لاحقته النيران والطائرات الإسرائيلية من دون أن تنال منه، تروي تجربتها بين الأسر والإبعاد والعمل المقاوم
حولا ــ آمال خليل
صبيحة 24 شباط 1999، استيقظت فاطمة نصر الله من فراشها بقلب مقبوض. ثمّة شيء جاثم على صدرها لا تجد له وصفاً. توجّهت نحو شاشة التلفاز، أدارتها، وتسمّرت أمامها تتابع باهتمام شريطاً مصوراً التقطته طائرة استطلاع إسرائيلية لمقاوم أعزل تمكّنت منه، أو هكذا اعتقدت. كانت تنظر إلى المقاوم بعيون دامعة، وهي تراه يهرب من بيت إلى آخر في بلدة مركبا المجاورة، فيما الإسرئيليون يطاردونه. عندما شعرت باقتراب الجنود منه، أحست بقلبها «يهبط إلى غير رجعة، عندما رأيته يركض من مكان إلى آخر ويختبئ بالشجر والحجر، وكنت أغرق في بكائي ودعائي لأن يصبّر قلب أمه على مصابها الأليم الوشيك». لكن جسدها النحيل اهتزّ عندما أصابته طائرة الاستطلاع بصاروخ أسقطه أرضاً.
ظنت، كما ظن الجميع، أن الشاب استشهد، وخصوصاً بعد «تأكيد» التلفزيون الإسرائيلي أن العملية التي قام بها «حزب الله» انتهت بقتل منفذها. فاطمة، المحاصرة بالطوق الذي فرضه الإسرائيليون على المنطقة بسبب العملية من جهة، وبالنار التي تغلي بين جنباتها من جهة أخرى، تلقّت اتصالاً من بيروت يُطلب فيه منها ومن زوجها الحضور للاطمئنان على أبنائهما الذين يعيشون هناك هرباً من الخدمة في صفوف جيش لحد.
بعد وساطات عدة مع «العملاء» للخروج من حولا، عبرت فاطمة معبر بيت ياحون إلى المنطقة المحررة. في هذا الوقت، كان يتناهى إلى مسامعها أن المقاوم الذي شاهدته في التقرير هو ابن الحاج عبد الله دياب من حولا. وأنه لم يسقط شهيداً، بل تمكن من الزحف في وادي السلوقي متوارياً بشجر البلان والأعشاب البرية حتى وصل إلى مجدل سلم. تؤمن الأم بالرحمة الإلهية التي نزلت على ابنها.
ظنت أن الشاب قتل بعد الصاروخ الإسرائيلي الذي استهدفه
في اليوم التالي لعبور فاطمة وزوجها الحاجز، أصدرت المقاومة الإسلامية البيان الذي حوّلها رسمياً إلى والدة الشهيد الحي. البيان تحدّث عن مهاجمة إحدى مجموعاتها دورية صهيونية ـــــ لحدية في محيط مركبا، دارت خلالها مواجهات عنيفة وسقطت فيها إصابات عدة بين قتيل وجريح. ولفت البيان إلى فقدان الاتصال مع أحد المقاومين، هادي السيد حسن (تيمناً بالشهيد هادي حسن نصر الله). وقد بثّ تلفزيون العدو مشاهد عن عملية مطاردة من الجو قامت بها طائرات مروحية في منطقة مركبا للمجاهد، وتحدث عن مقتله بعد إظهار مشاهد عن انفجار صاروخ موجّه استهدف مكان اختبائه. وبعد مرور 48 ساعة، عاد المقاوم سالماً إلى الأراضي المحرّرة بعدما استطاع تحقيق عملية تمويه خدعت وسائل المراقبة المباشرة والتقنية التابعة للاحتلال.
القدرة الإلهية وحدها، تقول فاطمة، جعلتها تتمالك أعصابها حتى تمكنت من احتضان ابنها في غرفة العناية الفائقة. أربعة أشهر من العلاج المكثف في المستشفى لم تكن كافية لمداواة جراح الشهيد الحيّ وحروقه التي لا تزال آثارها ظاهرة في جسده حتى اليوم.
أم هادي السيد حسن، في إشارة إلى لقب ابنها العسكري السابق، نالت قدراً وافياً من الاحتفاء بها وبه قبل انكفائه إلى الظلّ مجدداً لاعتبارات أمنية. طوال أشهر، أقيمت على شرف الشهيد الحي ووالديه عشرات الأنشطة، ونالت الأم الكثير من الدروع التكريمية التي تحتفظ بأثر صغير منها من دون إبرازه. تقول فاطمة التي تذكر اليوم ابنها وتعايده بيوم الشهيد كلما استعادت وسائل الإعلام صورته في المستشفى وهو يرفع شارة النصر الطالعة من جسده الملفوف كلياً، إنها تترك له «العيد الأكبر الذي يتكرر أعياداً دائمة في كل يوم تحت سماء حولا ويحمل تاريخ 25 أيار».
أعلن اسم المجاهد في اليوم التالي لعبورها وزوجها الشريط الحدودي
تربط فاطمة نصر الله بين ما عاناه ابنها الجريح خلال زحفه نحو القرى المحررة، ونحو الحياة، بشريط حياتها التي أمضتها في ظلّ الاحتلال: بين تهجير وفقر ولااستقرار. هي كانت في الخامسة من عمرها يوم نجت من مجزرة حولا، وقطعت هاربة مع أسرتها، سيراً على الأقدام من دون زاد أو مال، وادي السلوقي وصولاً إلى بلدة دبعال في قضاء صور. تذكر من تلك الفترة، حتى عودتهم بعد ستة أشهر إلى ديارهم، الكثير من أولاد الحلال، وأولاد الضلال، الذين استنجدت بهم عائلتها لإيوائهم. تذكر أيضاً أيام كانت تلعب مع أترابها في سهل تلة العباد الذي احتله الإسرائيليون وحوّلوه إلى موقع عسكري. ولهونين المتلاشية تحت الاحتلال، مع ست قرى أخرى، ذكريات في بال العجوز التي كان لها مع الصهاينة «في كل عرس قرص. ففي أفراح الإسرائيليين كان لي نصيب من مجزرة حولا، وكذلك خلال الاعتداءات المتكررة والإبعاد حتى اجتياح 1978. لكن الآية انقلبت وكان لي نصيب في أتراحهم».
خلال الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة قبل اجتياح عام 1978 وبعده، تنقلت الأم، الوحيدة في غياب زوجها خارج البلاد للعمل، مع أطفالها السبعة بين شقرا وكفرتبنيت وكفررمان ومجدل سلم وبيروت. ولأنها كانت تعتمد في المعيشة مما تجنيه من زراعة التبغ في حولا، عاشت فقراً مدقعاً «كنا نعتمد في تدبر أمرنا على أولاد الحلال الذين لا نحظى بهم دائماً».
وفي السنوات الأخيرة قبل التحرير، اضطرت مع زوجها إلى «تهريب» الأولاد إلى بيروت بسبب تهديد العملاء باقتيادهم إلى الخدمة الإجبارية في صفوفهم. وبعدما ألحقت البنات بإخوانهن، فرغ البيت على الوالدين المهددين بالإبعاد والاعتقال في أي لحظة بسبب ما يشاع عن انخراط أبنائهما في المقاومة. وبالفعل، في عام 1993، نفّذ العملاء تهديدهم واقتادوا الوالد إلى مركز التحقيق في بنت جبيل حيث احتجزوه مع الكلاب المفترسة لمدة 15 يوماً في زنزانة إفرادية، نقلوه بعدها إلى معتقل الخيام حيث مكث أقلّ من عام ورث خلاله أمراض الضغط والسكري والمفاصل. ولتكتمل القصة، عادت فاطمة يوم تحرير الجنوب في أيار عام 2000، لتجد منزلها ركاماً.
حياة تشبه في تفاصيلها حياة غالبية الجنوبيين. يعزّي فاطمة أنها لم تفقد ابنها الذي ما زال في الميدان، معلنة اكتفاءها بلقب والدة الشهيد الحي الذي «لا يقلّ شأناً عن لقب أم الشهيد». في رأيها «شعرة صغيرة فصلت بين الحياة أو الموت، لكن النتيجة أن جميع المقاومين، أسرى كانوا أم جرحى أم شهداء وحتى أهالي، صمدوا في قراهم ورفضوا التعامل أو الاستسلام، وقد صنعوا التحرير».


أسبوع الانتصارات

يصف المقاومون نجاة هادي بـ«البرَكة الإلهية» التي مسحت جبين المقاومين خلال الأسبوع الأخير من شهر شباط عام 1999. ففي 21 منه، احتل المقاومون ثكنة جزين. وبعد يومين تصدّوا لوحدة كوماندوس إسرائيلية تسللت إلى البقاع الغربي. وفي 28 قُتل قائد قوات الاحتلال في لبنان الجنرال إيرز غيرشتاين على طريق مرجعيون ــــ حاصبيا.