خلال ثلاثة أيام، اجتمع فريق لبناني ــ عربي ــ دولي من الاختصاصيين في فندق البستان، للبحث في كيفية تطوير الطرق المتّبعة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية عموماً، والآثار خصوصاً. الندوة نظّمها كلّ من مكتب منظمة اليونسكو في بيروت، وبرنامج التراث الأوروبي المتوسطي، برعاية وزارة الثقافة اللبنانية
جوان فرشخ بجالي
علماء آثار لبنانيون وسوريون وأردنيون وتونسيون ومغاربة، وخبراء من أجهزة الجمارك الدولية، والشرطة الدولية (الانتربول)، ومسؤولون في منظمة اليونسكو، اجتمعوا مطلع الأسبوع الجاري في لبنان ليبحثوا الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، وهاجسهم إيجاد “أفضل الطرق” للحفاظ على ملكية الدول والشعوب لتراثها وتاريخها، وتحديداً الممتلكات الثقافية، التي عرّفتها منظمة اليونسكو، بـ“الممتلكات المنقولة وغير المنقولة ذات القيمة الأثرية أو التراثية أو التاريخية أو العلمية أو المعمارية أو ذات الرمزية الدينية...”.
فالآثار من أكثر القطاعات تضرراً بالتجارة العالمية غير المشروعة، ولا سيّما في العقود الماضية، ومع تسهيلات السفر عبر القارات أو تقليص الحدود الدولية، إضافةً إلى الانترنت التي حوّلت عملية مكافحة هذا الاتجار إلى شأن شبه مستحيل ملاحقته.
ولأن الدول العربية تعاني هذه المشكلة معاناةً شبه يومية، ولأن الوزارات والدوائر المختصة تحاول جاهدةً الحد من هذه الظاهرة، قرّر مكتب منظمة اليونسكو في بيروت تنظيم هذه الندوة، التي دُعي إليها أهل الاختصاص، والتي عرفت مناقشات وأسئلة خاصة بهذا القطاع وبتلك الدول. واستمرت الندوة ثلاثة أيام، أولها شمل حفل الافتتاح والمحاضرات عن الاتفاقيات الدولية لحماية الإرث الثقافي من الاتجار، وخاصةً في حال النزاع المسلح. وتركّزت مداخلات المشاركين على الطرق القانونية لاسترداد القطع المسروقة والمعروضة للبيع في دول أخرى. وشاركت في اليوم الثاني المنظمات الدولية التي تعمل لمكافحة الاتجار غير المشروع. فكان هناك ممثلون عن منظمة الجمارك الدولية، الذين شرحوا كيف يجري العمل، وتُعدّ اللوائح بالقطع المسروقة من المتاحف أو المجموعات الخاصة... أما مكتب الانتربول، فشرح كيف يمكن ملاحقة السرقات، والطرق الممكنة لاسترداد القطع، التي تُعرض للبيع، وقد أثبت مصدر سرقتها.
شرح مكتب الأنتربول كيف يمكن ملاحقة السرقات والطرق الممكنة لاسترداد القطع
وخصص اليوم الثالث من الندوة للبنان. وعرض المشاركون طرق عمل الأجهزة المسؤولة عن التراث، وكيفية العمل لحماية الممتلكات الثقافية. وشارك مكتبا السرقات الدولية والجمارك اللبنانية، اللذن يعملان بطريقة مباشرة مع المديرية العامة للآثار في حال حصول مخالفات، أو عمليات تهريب للقطع الأثرية عبر الحدود. وللتذكير فإن لبنان أوقف الاتجار بالآثار، ومنع تصدير القطع بمرسوم وزاري منذ الثمانينات من القرن الماضي. وكان واضحاً من المشاركة أن المشاكل التي تعترض المديرية العامة للآثار في ملف الاتجار واسعة ومعقّدة، وتتطلب جهداً خاصاً بها. وحال لبنان في هذا الإطار لا تختلف كثيراً عن حال المديريات الأخرى في الدول المشاركة. وقد طالب المشاركون بتحديد هيكليات خاصة بمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، وبتدريب كل طاقم العمل الذي يعترض هذه السرقات، مثل شرطة الحدود والجمارك ومكاتب السرقات... وأكدوا أهمية إتمام الجداول الخاصة بالممتلكات الثقافية المعرّضة للسرقة في القطاعين العام والخاص.
ومن التوصيات على المدى المتوسط، طالب المشاركون بتوقيع الاتفاقيات الدولية المختصّة بحماية الممتلكات الثقافية، مثل معاهدة لاهاي 1954 واتفاقية UNIDROIT، والعمل على توعية المجتمعات على المشاكل التي تتعرّض لها الآثار، ونشر ثقافة محاربة الاتجار غير الشرعي بالممتلكات الثقافية.
أما العمل على المدى الطويل، فأوصى المشاركون بصوغ القوانين وإجراء الدورات التدريبية اللازمة للعاملين في هذا القطاع، وفي النهاية إتمام دراسات عن النتائج التي توصّل إليها القطاع بعد تطبيق هذه الخطوات العملية.
تجدر الإشارة إلى أن عملية مكافحة الاتجار غير الشرعي بالممتلكات الثقافية تشمل القطع المعروفة لدى السلطات، وفي الدوائر الرسمية، التي غالباً ما تحمل رقماً يدلّ على مكانها في السجلات الرسمية. ما يعني أنه يمكن ملاحقة أيّ قطعة لها ملف، بينما يستحيل أو يصعب ملاحقة قطع مسروقة من المواقع الأثرية وليس لها ملف، أو رقم في سجل رسمي. وغالباً ما تكون قد بيعت بعد نبشها من الأرض، وخسرت بذلك الدول الإثبات بأنها تعود إليها.
ويعدّ الاتجار غير المشروع بالآثار من أكبر المشاكل التي تتعرّض لها الدول الفقيرة اقتصادياً والغنية أثرياً، والتي يشار إليها علمياً باعتبارها الدول التي يُستنزف تاريخها، ويُسرق تراثها ولا يستخدم في سبيل تحسين واقعها الاقتصادي.


رخامية مزينة تُسرق من متحف بعلبكفبدأ التساؤل يطرح نفسه، حتى شرح المدير العام للآثار، فريديرك الحسيني، خلفيات هذه السرقة: «القطعة الرخامية التي لا يزيد حجمها على 15 سنتمتراً، والمزيّنة بزخرفات ونقوش ذات أشكال هندسية، كانت معلّقة على جدار متحف بعلبك، منذ افتتاحه سنة 1998، حتى آذار 2009.
وقد أظهرت التحقيقات أن حارس المتحف قرر أن يأخذ استراحة خلال عمله، فترك القاعة بمن فيها وغادر. وإذا بأحد الزوّار يفك القطعة عن الحائط، يحملها ويأخذها معه إلى خارج الموقع».
عملية السرقة السهلة هذه جرت في وضح النهار وخلال دوام العمل! وبالطبع، لم تحدّد هوية السارق، بما أن المتحف غير مزوّد بكاميرات مراقبة، وبما أن هذه المهمّة تقع على عاتق الحارس الذي استراح من مهمّاته. حينما أبلغت بالسرقة وبدأت التحقيقات في الموضوع، أبلغت المديرية العامة للآثار مكاتب الشرطة الدولية (الإنتربول) بالسرقة وحيثياتها، فقررت هذه الأخيرة عرض صورة القطعة الرخامية في ملصقاتها، منعاً لأي عملية بيع قد تجري لاحقاً. إذا عُرضت القطعة في المزادات العلنية، أو حتى بيعت في أي صالة عرض، يمكن الدولة اللبنانية المطالبة بها، واستعادتها من دون دفع أي تعويضات للمشتري، أو البائع. فالقطعة مسروقة من متحف، وهي مزوّدة برقم يؤكّد تاريخ اكتشافها وملكيتها من جانب الدولة اللبنانية.
ويبقى السؤال: هل ستظهر هذه القطعة يوماً في سوق الآثار؟ بالطبع، هذا رهن «بمالكها» الجديد، ولكن من المرجّح أنها لن تظهر أبداً، أو على الأقل ليس في المستقبل القريب.
فبحسب التشريعات العالمية لسرقة الآثار والاتجار غير المشروع بها، فسارق القطعة سيعاقَب، وسيسلَّم إلى القضاء اللبناني ساعة يُعثر عليه.
أمّا بالنسبة إلى من يشتريها، فيخسر أيّ حق له عليها لحظة وضع اليد عليها من جانب السلطات المختصة.
فشراء القطع الأثرية المسروقة (التي يمكن إثبات ملكيتها) يُعدّ استثماراً خاسراً.