محمد نزاليقفـلُ راجعاً... يحمل دمه على أكفّ التراب وينثره عند أرضه الطاهرة. يحوطها عشقاً ويفتح لها ذراعيه، فتحضنه شوقاً، وأنينها... لمَ هذا الفراق؟
يقفـلُ راجعاً... يغمض مقلتيه على سنين من العطاء. كمين، اقتحام، عبوة. لم تتعبه أو تستثر فيه العناء.
سنون طوال حملته على ظهرها، تنشد له لحن الحياة، فلا يعيرها التفاتة البقاء.
يشدّ على ذراعيها مودّعاً، مستعجلاً موعد اللقاء. إلى هناك، حيث يرقد من سبق من الأحبة الأوفياء.
قبل سنين خلت، جاء الجبل فتى يحمل قلباً يضج بالحياة. وجه غزير الابتسامات، تراه كماء الحياة. يغوص في الأرض ويزرع حبيبات العطاء.
وصار الفتى يستيقظ ليله، وفي القلب حكايات عن طول الطريق ومشقات السفر.
عن همومه والخطر. يستذكر تاريخاً لرفاق زرعوا دمهم عند الروابي والتلال، وهم يعانقون الصخر. أقدامهم ثابتة في الأرض، كما الجبل. منهم من رحل، ومنهم لا يزال ينتظر.
يكتب بدمه على صخرة ميدون، موصياً قبل أن يرحل، «هنا قاتلنا ولم نركع، انظروا دماءنا وتابعوا الطريق». رحل مبتسماً.
ويعود الفتى من بعيد، رغم الصعاب والجراحات وطول المسافات. يكتب لإخوانه...
أن «ليس لقدرتنا حدود». وتلك القلوب العامرة، نورها لا يجُفّ ولا يبيد عطاؤها. ها قد أقبل. يمّم وجهه ناحية الجنوب. تقدم دمه إلى الثغور، يسأل عن إخوان لا يزالـون يكابدون. كان سيأتيهم بالغد القريب، بالبشرى. يشاركهم فرحة النضال وآلام الجراح.
تذكّر من سبق الرحيل من العشاق. استشهدوا هناك، عند الزيتون، فاستعجل اللحاق. ما عاد يشارك المنتظرين. فضّل المكوث هناك، يشارك من قضى.
تبدد الحزن من لون عينيه، وما عاد يعنيه البكاء. اختصر المسافات، ونـزع من القـلب حزناً لم يفارقه، فجاء بالبشرى بعد استجابة الدعاء.
أيا ربّي... لا تجعل موتي على فراش. أيا أرضي... إنّي سئمت حياة الذل، وما عُدت أحتمل عيش
الاحتلال.
أعيديني إليك، مدافعاً عنكِ. ضمّيني بشوق ممتزجاً بالتراب. خذيني مضرجاً بدمي، تُقطّع أوصالي أشواقي إليكِ.