سري مقدسيالإعلان عن قرار محمود عباس عدم الترشح لإعادة انتخابه كرأس للسلطة الفلسطينية، يجب أن يكون خبراً سارّاً بالنسبة لكلّ الفلسطينيين. في الواقع، سيتيح رحيل عباس فرصاً ضرورية لتقييم الأمور وتحديد الطريق المستقبلي للنضال الفلسطيني. عباس الذي لم يكن شخصية جذابة أو كاريزماتية، بدأ يخسر شعبيته منذ يومه الأول في منصبه قبل خمس سنوات (انتهى عهده رسمياً في كانون الثاني 2009). منذ اتفاق أوسلو في 1993، الذي لعب فيه عباس دوراً مهماً، تسعى القيادة الفلسطينية الرسمية وراء صيغة للسلام (حلّ الدولتين) لم تثمر سوى زيادة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. هذه السنوات الست عشرة تميزت بشلّ حركة الشعب الفلسطيني وزيادة يأسه، وتنامي لائحة الضحايا المدنيين، أخيراً في غزة.
نجد أنفسنا أمام استنتاج واحد: ما يسمى عملية السلام التي ارتبط بها عباس ارتباطاً وثيقاً، وإن كمساعد إسرائيل الصغير، وُضعت لتؤدي إلى هذه النتائج بالضبط. الخطوة الأولى من عملية أوسلو التي بدأت مع موافقة عباس في 1993، هدفت إلى تفتيت الأراضي المحتلة إلى شظايا منفصلة بعضها عن بعض وعن العالم الخارجي، ووضعها تحت سيطرة إسرائيلية كاملة وممأسسة. انظروا إلى أية خريطة، ولن يفوتكم موضوع فصل غزة عن الضفة الغربية والقدس الشرقية، والتشظي الداخلي الإضافي للضفة الغربية، وهي كلّها نتيجة مباشرة لأوسلو.
اليوم، تبدو السلطة الفلسطينية التي يترأسها عباس مجرّد دمية. باتت تدير الأعباء اليومية للاحتلال العسكري، وهي المسؤولة عن المشاحنات والأكلاف لإدارة شعب مضطرب. تقوم بكلّ هذا نيابة عن الإسرائيليين الذين يستولون، في هذه الأثناء، على أراض فلسطينية، ويهدمون البيوت الفلسطينية، ويبنون مستوطنات إسرائيلية في خرق للقانون الدولي (تضاعف عدد سكان المستوطنات منذ بدأت محادثات السلام). بالنسبة لكلّ الفلسطينيين، باستثناء الزمرة الصغيرة التي تستفيد من هذا الترتيب، تعتبَر مشاهدة ميليشيا عباس والسلطة الفلسطينية المدربة على أيدي الأميركيين والمسلحة بواسطة الإسرائيليين والتي تتلقى الأوامر وتتعاون مع الإسرائيليين، مشهداً منفّراً. وعندما خضع عباس أخيراً للضغط الإسرائيلي والأميركي، وأسقط تأييده لتقرير غولدستون، اعتبر العديد من الفلسطينيين أنّ هذا الأمر هو الضربة القاصمة لعباس والسلطة الفلسطينية نفسها.
ما هي الخيارات البديلة إذاً؟

حماس لا تمثل أكثر من التحدي من أجل التحدي. ليس لديها مشاريع، خطط أو رؤية قادرة على توحيد الفلسطينيين

حماس لا تمثل، في أفضل الحالات، أكثر من التحدي من أجل التحدي. ليس لديها مشاريع، خطط أو رؤية قادرة على توحيد الفلسطينيين وتقريبهم من إنجاز أهدافهم. إلى جانب ذلك، تنفّر طروحاتها الدينية المسيحيين والفلسطينيين العلمانيين الذين كانوا دوماً في طليعة الحركة الوطنية، كما لديها القليل لتقدمه إلى الفلسطينيين المسلمين أيضاً.
لكن أن تعلق في مناقشة المرشحين البدلاء لرئاسة السلطة الفلسطينية من فتح أو من الأحزاب الأخرى، هو تضييع للفكرة الرئيسية: السلطة الفلسطينية لا علاقة لها بمستقبل الشعب الفلسطيني بأسره.
لفهم كل هذا، يجب أن نتذكر أنّ اللغة المصاحبة لعملية السلام منذ بداية التسعينيات علّمتنا النسيان: قلة من الفلسطينيين يعيشون تحت الاحتلال. هذه الأقلية هي التي يركز عليها خيال العالم منذ أوسلو. أمّا القسم الأكبر من الشعب الفلسطيني، فيتكوّن من أشخاص طُردوا من منازلهم خلال تكوين إسرائيل في 1948. لم تتوجه إليهم السلطة الفلسطينية، حتى نظرياً، ولم تمثلهم. الأمر ينطبق أيضاً على المليون ونصف مليون فلسطيني الذين يعيشون كمواطني درجة ثانية في إسرائيل، ويعانون من عنصرية وتمييز ممأسس وممنهج بحقهم لأنّهم ليسوا يهوداً يعيشون في بلد يريد أن يكون يهودياً.
كرئيس للسلطة الفلسطينية، لم يمثّل عباس غالبية الفلسطينيين، ولم يدّعِ ذلك حتّى، ولن يكون أي خليفة له كذلك. حتى حلّ الدولتين الذي تطلبه السلطة الفلسطينية وتسعى وراءه، لا يمنح شيئاً لغالبية الفلسطينيين (يمنح الأقلية حكماً ذاتياً وهمياً). لن تستطيع الغالبية الكبرى من الفلسطينيين الذين لا يعيشون في الأراضي المحتلة، التصويت عندما تسمح إسرائيل بإجراء الانتخابات.
سيحلّ السلام فقط عندما يُهتمّ بحقوق كلّ الفلسطينيين وحاجاتهم (ليس فقط الأقلية التي تعاني من الاحتلال) وكلّ اليهود الإسرائيليين. رحيل عباس ومعه السلطة الفلسطينية ووهم حل الدولتين، يفتح باب احتمال عودة الفلسطينيين إلى حلّ الدولة الواحدة وطلب إقامة دولة واحدة ديموقراطية علمانية يعيش فيها اليهود الإسرائيليون والفلسطينيون متساوين. هذه هي الطريقة الوحيدة لسلام عادل ودائم. رحيل عباس هو البداية.
(عن «فورين بوليسي»: مجلة أميركية تصدر كلّ شهرين أسسها صموئيل هانتنغتون تنشر مقالات لمفكرين وأكاديميين ــــ ترجمة ديما شريف)