إن العوامل الاقتصادية المتعلقة بسوق العمل وشروطه واحتياجاته، بالإضافة إلى عوامل أخرى اجتماعية، لها تأثير أساسي في ارتفاع معدل بطالة الإناث أو دفعهن إلى العمل في مجالات بعيدة عن اختصاصاتهن
كارول كرباج
حصلت مها على بكالوريوس في تكنولوجيا المعلومات من الجامعة العربية المفتوحة. بعد سنة من انتظار فرصة عمل مناسبة في مجال دراستها، اضطرت في نهاية الأمر إلى القبول بالعمل في قسم التدليك بأحد فنادق بيروت، بعدما رفضت جهة العمل تشغيلها في قسم المعلوماتية. لا تختلف مها عن عدد من قريناتها اللواتي يجدن أنفسهن مخيرات بعد انتهاء دراستهن بين البطالة أو العمل في مجال مختلف عن تخصصهن. مشكلة لا يواجهها بنسبة الذكور نفسها.
إذ إنّ المقارنة بين نسبة الإناث من مجموع السكان ومستواهن التعليمي من جهة، ومعدل نشاطهن الاقتصادي من جهة أخرى، تشير إلى تفاوت كبير بين الجنسين في فرص العمل المتاحة. في لبنان، قدر البرنامج الأورومتوسطي «دور المرأة في الحياة الاقتصادية» نسبة الإناث الناشطات اقتصادياً بـ25% من إجمالي القوى العاملة، في مقابل 75% عند الذكور. على الرغم من انخفاض نسبة الأمية عند الإناث إلى 11%، وتخطي نسبة الفتيات الملتحقات بالتعليم العالي الـ53% في عام 2000.
ليس هذا واقعاً خاصاً بالمرأة اللبنانية، بل يتشابه بدرجة كبيرة مع دول عربية أخرى. في سوريا، بحسب المصدر ذاته، فإن نسبة مشاركة المرأة في الحياة الاقتصادية لم تتعدّ الـ20%. أما في الأردن، فوصلت نسبة الإناث الناشطات اقتصادياً إلى 25.6%، على الرغم من أن نسبة التحصيل العلمي تخطّت 88% عند الشابات.
لكنّ القبول بشروط سوق العمل وإن كانت أقل من المستوى التعليمي أمر غير وارد عند نسبة كبيرة من الفتيات، ولعل هذا ما يفسر العلاقة الطردية بين مستوى تعليم الإناث ونسبة البطالة، إذ كلما ارتفع المستوى العلمي للإناث ارتفع معه معدل البطالة. لذلك، لم تقبل بيسان أيوب الحاصلة على ليسانس في العلوم الاجتماعية وتواصل حالياً دراسة الماجستر في الجامعة اللبنانية، بعد مضي خمس سنوات على تخرجها بفُرص العمل المتاحة لبعدها عن مجال الدراسة، ما يضيع رغبتها في المراكمة في هذا المجال. أوضحت بيسان أنّ الفرص المتاحة لها، مثل عاملة في أحد المطاعم أو موظفة استقبال بأحد الفنادق، كانت تجدها بصعوبة عن طريق مكاتب التوظيف التي تطلب أول أجر من العمل كعمولة لها. هذا عدا اقتناعها بأنّ «فرص العمل المتاحة للشابات ليست بهدف استثمار كفاءتهن، بل سعي لجعلهنّ سلعة لواجهة المؤسسات».
نسبة الناشطات اقتصادياً 25% من إجمالي القوى العاملة، في مقابل 75% عند الذكور
عدم القدرة على التوفيق بين المسؤوليات المنزلية والمهنية، وخاصة في حال الزواج، من العوامل الثقافية والاجتماعية التي تحدّ من النشاط الاقتصادي للمرأة. حنين، حاصلة على ماجستر في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، اضطرت إلى ترك عملها في لبنان عندما قرر زوجها السفر إلى إحدى دول الخليج. وتتحدث نورا عن ظروفها النفسية القاسية بعدما رضخت لرغبة زوجها بترك العمل. لنورا خبرة مهنية تصل إلى 16 سنة، قادتها ظروفها إلى العمل في مكاتب طيران ومن ثم في السفارة اللبنانية وفي مراكز لتعليم اللغات. رمت شهاداتها وخبرتها وراءها حين تزوجت وأنجبت طفلة تتطلب عناية خاصة. عبّر عن هذا الوضع فيليب فرج في دراسته «المرأة في الدول العربية ــــ إعادة نظر للنظام البطريركي» عام 2003 الذي برهن فيها أنّ نسبة النشاط الاقتصادي للعازبات في الفئة العمرية 25ــــ29 تنخفض من 31% إلى 18% بمجرد زواجهن. هذا الواقع ولّد للمرأة بعض الحقوق في العمل (كامتيازات الأمومة وتدابير خاصة لمراعاة مسؤولياتها العائلية) بهدف تقليص التناقض بين دورها الإنجابي ودورها الإنتاجي. لكن تراجع القطاع العام مع نمو السياسات الاقتصادية الليبرالية مكّن العديد من مؤسسات القطاع الخاص من التحايل على هذه الحقوق، نظراً لكلفة امتيازات الأمومة عليها اقتصادياً، وتحويلها إلى مبرّر لاستبعاد استخدام الإناث. أما أصحاب العمل الذين يفضلون العمالة النسائية، فغالباً ما تكون الوظائف التي يعرضونها متدنية الأجر والكفاءة.لذلك، نجد أن الإحصاءات المتعلقة بمشاركة الأنثى في سوق العمل لا تأخذ بعين الاعتبار التغيّرات الاقتصادية الحاصلة، أي توجه الإناث نحو الاستخدام غير الرسمي، إذ يفتقرن إلى حماية قوانين العمل ورقابة الأجهزة المعنية ويعانين من ظروف عمل مأساوية. وبالطبع، من الصعب الحصول على معلومات دقيقة عن طبيعة عمل الأنثى في هذا القطاع وحجمه، لكن منظمة العمل الدولية في دراسة لها عام 2002 استطاعت الجزم بأن نسبة عمل الأنثى في عدد كبير من الدول العربية في القطاع غير النظامي تزيد عن 40%.
يضاف إلى هذه العوامل الاقتصادية المتعلقة بسياسات «تحرير السوق»، أخرى ثقافية اجتماعية تتعلّق بظروف العمل في مؤسسات القطاع الخاص التي لا تُشجّع العائلات المحافظة اجتماعياً على القبول بعمل بناتهن فيها. من هذه الظروف ساعات العمل الطويلة والخوف من التعرّض لتحرشات جنسية داخل العمل وغير ذلك. من هؤلاء ريما، طالبة أدب عربي في الجامعة اللبنانية. رفض والدها فكرة أن تعمل بائعة بدوام جزئي لتأمين مصروفها الخاص، إلى جانب دراساتها العليا، بحجة «حمايتها من أولاد الحرام».
هكذا تبتعد الأنثى على الدوام عن احتياجات سوق العمل، كما تجد نفسها عرضة للتمييز بسبب دورها الإنجابي، فتتجه إلى الأعمال الخفيفة أو المساعدة أو إلى القطاعات غير الرسمية وطبعاً إلى المزيد من البطالة.


اختصاصات بعيدة عن متطلبات السوق

عوامل أخرى تعوق مشاركة الأنثى في عملية الإنتاج مرتبطة بالاختصاصات الجاذبة للإناث. إذ كشفت وزارة الشؤون الاجتماعية في عام 1996 أنّ 68.2% من طلاب الأدب والدراسات الإنسانية هنّ إناث. أما نسبتهنّ بين طلاب الهندسة الزراعية فلا تزيد عن 33.8% وبين طلاب المجال التقني تنخفض إلى 17%. سوق العمل في لبنان لا يحتاج لعاملين في مجال العلوم الإنسانية إذ تتمحور معظم الأعمال حول التجارة، الهندسة، التكنولوجيا والعلوم.