أنسي الحاج

■ «هذا الكائن المعبود»


يقول بودلير: «على المرأة أن تُدهِش وأن تَسْحَر. هذا الكائن المعبود ينبغي له أن يتذهَّب ليُعْبَد. لذلك يجب أن تستعير من كلّ الفنون الوسائل التي تتيح لها السموّ فوق الطبيعة لتُحْكِم سيطرتها على القلوب وتصعق العقول (...) وسيسهل على الفنّان الفيلسوف أن يجد الأسباب التي تُشَرْعِن جميع الأساليب التي استعملتها النساء في مختلف الأزمان بغيةَ تحصين جمالهنّ الهشّ وتأليهه». ويدافع بودلير عن «الأسود الاصطناعي المحيط بالعين والأحمر الموضوع على الجزء الأعلى من الخدّ (...) فإنهما يمثّلان الحياة، حياة خارقة للطبيعة ومفرطة. هذا الإطار الأسود يجعل النظرة أكثر عمقاً وغرابة، ويعطي العين، على نحو أشدّ حسماً، مظهر النافذة المفتوحة على اللانهاية. أما الأحمر الذي يُشعل الخدّ فإنه يزيد إشراق البؤبؤ ويضيف إلى الوجه النسائي الجميل شغفاً غامضاً هو ما يومض به عادةً وجه الكاهنة».
نضع جانباً تركيز بودلير على التبرّج ونتوقّف عند إكباره للإشعاع الجمالي الذي يراه في المرأة، إمّا منبعثاً منها وإمّا واجباً عليها تأمينه.
نحن هنا أمام مفهوم مناقض تماماً للمفهوم النسوي. ما هو المفهوم النسوي؟ هو نظرة احتقاريّة تلقيها المرأة على نفسها وتُقنّعها بشعار المساواة. أكثر ما في هذا الشعار التباساً، المساواة: المساواة بالرجل، طبعاً، ولكن كيف؟ الحقوق الاجتماعية والسياسيّة والقانونية أضعف الإيمان، والمجتمعات التي لم تعترف بها بعد سائرة حتماً نحو الاعتراف بها تحت طائلة الموت إن لم تفعل. ليست المساواة الاجتماعية والسياسية والقانونية هي التي طغت على سطح النسويّة بل منافسة الرجل في أبشع استرخاءاته، حيث يُلقى بحمل الهاجس الجماليّ جانباً، ويمسي الاسترجال مرادفاً للتحرّر، مضافاً إلى القذارة، التي أمست هي أيضاً، وأحياناً هي خصوصاً، عنوان المساواة.
ما أبعدنا عن منامات الشعراء! ومن المفارقات العجيبة أنه ربّما أصبح على المرء، كي يعثر على المرأة ـــــ المرأة، أن يبحث عنها في المجتمعات المتخلّفة، حيث الخِباء والنقاب لا يزالان يحميان النساء من خدعة الاندلاق التي أفقدتهنّ ما كان لهنّ من سلطان وباتت تُهدّد بتحويل أشواق الرجال لهنّ إلى حضارة منقرضة.

■ الخسارة المجيدة


الجسدُ موهم، إذاً عليه أن يلتزم شروط إيهاماته. وبما أن أحد أسمائه الترائي، كان من حقّ مؤمنيه أن يروا أخيراً في لغتهم نساء يحدّثنهم عن حياتهنّ الجنسيّة دون أن يبدّدن الوهم. كان هذا حلماً: كاتبات جذّابات يجعلن القارئ لا يصدّق ما يقرأه لهنّ، قادرات فجأةً على جساراتٍ كهذه، نائماتٍ على أدغال كهذه، فاركاتٍ رقاب الرقابتين.
الروايات التي تعاقبت على وضعها نساء من المحيط إلى الخليج، اخترقت في البضعة العقود الأخيرة جدار التقاليد، وضمّت صفحاتها ما يفوق الثورة إلى ما يمكن اعتباره علوماً جديدة للرجل على درب تخفيف جهله بالمرأة تخفيفاً يزيد من الفضول ويضاعف الشغف.
حبّذا لو مضت أقلامهنّ وأمعنت عموديّاً وأفقيّاً على منوال البوح الإيروتيكي في هذا الإطار الأنثوي الدافئ البارد الصارخ الهامس، بهذه اللهجة الفرحة المغوية اللعوب، فنحن ـــــ رجالاً ونساءً ـــــ في حاجة إلى أن نكتشفهنّ بأقلامهنّ، وأن ترتاح ضمائرنا حين نقع في شهاداتهنّ على حقائق طباعهنّ، وأن الأمر ليس إكراهاً ولا تكيّفاً، وأن «الغابات» ليست وقفاً على الرجل، وأن ممالك التهتُّك شركة بين الجنسين، وأحلى ما تكون عندما يكون المجلّي فيها هو الجنس «الضعيف»، حيث تقاد اللعبة على نغم «النعجة» وقد بانت هي القائدة لا الذئب.
نوشك أن ننسى، تحت وطأة الوثنيّات الجديدة التي لم تحفظ أي شيء جميل من الوثنيّات القديمة، نوشك أن ننسى أن حوّاء، لا آدم، رائدة الاستمتاع، وما اجتياحها الحديث لحقل الكتابة الإيروتيكيّة غير استعادة وطن سليب... مع رجاء نرفعه إليها: أَن تَحْذَر شِراك اللغة، فلا توقعها إغراءات التصريح في تنفيرات وتقزيزات تحسبها حقّاً لها، وهي في الواقع الخطر الأكبر على العلاقة، وعلى صورتها هي في ذهن الرجل، وكون هذه الصورة هي صلب قوام رجولته. لقد أغرت حوّاء آدم بالحلم لا بالواقع، ولو رأى الصحوة قبل النشوة لما كنّا خسرنا الفردوس. وماذا كنّا لنكون لو لم نربح تلك الخسارة!

■ لحظة


كتابةٌ لأجل لحظات من الكتابة، لحظات التأجّج الأقصى، الإشراق الأعظم، لحظات الصواعق. دَوَران وصولاً إلى هذه النقطة... وقد لا تُصادَف. وإن لم تُصادَف فلا معنىً لكتابة.
مثلها في الحياة. تمضي كلّها في اللفّ حول الذروة، والذروة لحظة! لم يحلم الإنسان بالفردوس مقدار ما حلم بأن تدوم له تلك اللحظة.
ولا شيءَ يقضي على هذا الحلم، لا إضاعته ولا تحقيقه... تحقيقه في الحياة توسيعٌ لحدوده، وتحقيقه في الخَلْق الفنّي انتصارٌ للخلاّق على الإنسان العادي فيه، انتصارٌ للشمس على الموت.

■ لو جاؤوا الآن


كان يُقال الشعر لا يُطعم خبزاً. العكس هو الصحيح. في الماضي البعيد ارتزق الشعراء بالمدح والهجاء وبالأمس القريب بالتعليم والإشراف اللغوي وأمس واليوم بإصدار الصحف وبالتحرير فيها. ومَن مِن الصحافيين لم يمارس الكتابة الشعريّة علناً مارسها خفيةً ومَن لا هذه ولا تلك فتّشْ في روحه تجد شاعراً.
فضلاً عن شعراء عاشوا من شعرهم وأدبهم، كسعيد عقل، وعاشوا وعاش غيرهم من شعرهم وأدبهم بعدهم، كجبران، وقل مثل ذلك أو قريباً منه عن أحمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري ونزار قبّاني ومحمود درويش وأدونيس، واليوم عن شعراء من الأجيال اللاحقة ومن الشبّان الطالعين لا يرتزقون من شعرهم مباشرة، صحيح، ولكنّهم لولا شاعريّتهم لما بَرَعوا حيث هم، ومعظمهم في الصحافة وبعضهم في التدريس.
فضلاً عن شعراء الزجل، ومنهم مَن يدرّ عليه الزجل أكثر ممّا يدرّ الشعر الفصيح (وبعضه زَجَل بالفصحى) على أفحل شعرائه.
الواقع أن كلّ الفنون كانت متّهمة بإفقار أصحابها، وكثير من الرسّامين والملحّنين ماتوا جوعاً. أمّا المتكسّبون من شعراء العرب فما كانت أكياس مكافآتهم الأميرية أو الملكيّة تسدّ بعضاً من عوزهم حتّى يطفروا بحثاً عن محسن جديد. وإذا أردنا تشبيهاً قريباً فلنتخيّل صحافيي اليوم كيف يصابون بدوخة «الالتماس» حين توشك الدفعة السابقة على النفاد، وكثير من حملات «الإصلاح» أو «المعارضة» لا دافع لها غير إثبات الوجود حيث تدعو الحاجة.
الشعر، بمعناه الصافي، لم يكن مرّة باب رزق، ولكن ما إن يرتضي الشاعر استعمال قدراته الأدبيّة والخياليّة خارج الشعر حتّى تنفتح له الأبواب، من السينما إلى التلفزيون والصحافة والتعليم والوظيفة والكتابة بالنيابة عن الآخرين، حيث يسهل عليه تقمُّص مختلف الأدوار ما إن يعفي نفسه من صعوبة أن يكون هو ذاته.
أمّا سائر الفنون فلم تعد مجلبةً للبؤس ولا مثاراً لجدل «أخلاقي» بين الأهل والمحيط، فالغناء بات مهنة الجميع، والتلحين على طريقه، وأقلّ معرضٍ تشكيليّ لا بدّ أن يبيع ولو حدّاً أدنى من المعروضات إذا توافرت العلاقات الاجتماعيّة المناسبة للعارض أو العارضة. معنى القيمة الفنيّة تغيَّر كليّاً حين اجتاحت العاصفة الاستهلاكيّة العالم، والأخطر من ذلك أن مفاهيم العمل الفنّي، خلقاً وتأديةً، سواء في حقول الأدب والموسيقى والتصوير، قد لحقها تغيير انحداري مريع، فتراجعت المقاييس الصارمة لا تحت ضغط التطور والتحرّر بل أمام إباحة الاستهلاك التجاري الذي استغلّ جوّ التطوّر والتحرّر لينشر الضحالة والتفاهة. وبعدما كان الخلق الفنّي خلال العصور مرادفاً لأغلى وأنبل ما في الإنسان بات عنواناً بلا مضمون ومضغة في فم الادّعاء والتزوير.
ولعلّ أوضح فكرة يمكن اقتراحها حول هذا الوضع تَصوُّر مسرحي كسوفوكل أو شكسبير وشاعر كبودلير ومصوّر كفان غوغ أو دولاكروا وروائي كدوستيوفسكي وقد هبطوا فجأةً في عالم اليوم وأيّ مصير كان سيكون مصيرهم بين جحافل السطحيّة المسيطرة على وسائل النشر والإعلام.
لم يعد الهاجس كيف يكسب الشاعر رزقه بل كيف يكتب قصيدته. لم يعد الهاجس حول الكاتب بل حول الكتابة. هناك مكان على الرصيف لكلّ الباعة...

■ أُخوّة


أيعقل أن لا يتبقّى من الشعارات الضخمة التي سوّرت الحياة، حياتنا، غير الإخاء؟ سؤالٌ بلا معنى في البداية لمن يسمعه، ولا يستحقّ الجواب. فلنعده مراراً: إذا تعذّر الإيمان الديني، وتمزّقت غشاوة العدالة، وغشاوة الحريّة، وأكذوبة المساواة، إلى آخره، وفي واحدة من لحظات الهَلَع والشدّة والغرق والتفتّت، ما الذي يرسخ في الذاكرة أكثر من دفء عينين؟ وماذا نسمّي هذه الحرارة المسعفة غير حرارة الإخاء، تسمو قيمتها بقدر ما تصدر عن غرباء؟
لم أسمّها صداقة، ولا محبّة، هنا نحن في حقول مبهمة وقليلة العمق، لأنها قليلة الغريزة. عندما يدخل محكوم للمرّة الأولى إلى سجن ويلقاه واحدٌ من السجناء في رطوبة الزنزانة بعينين دافئتين لا يشعر بصداقته ولا بمحبّته بل بقربى الأخوّة. تعاطُف مَن لم تكن تتوقّعه. وتعرف أيّهم الأعظم؟ شخصٌ يحميك بأخوّته فيما هو، وراء كَرَمه هذا، قد يكون أكثر منك حاجة إلى العون.


أيّتها العاصفة

أيّتها العاصفة لا تستعجلي الرحيل.
أصواتُكِ ولا الهدوء بعدك، بروقك رعودكِ ولا قوسُ قزح. سوف يعود الهدوء وذات يومٍ مرعب لن يبرح. وألوان القوس... ما الحاجة لألوان القوس ولا شيء يعلو في الرأس على سمائه؟
أحبّكِ وأخافكِ أيّتها العاصفة، دوامكِ من دوام الطفل، وضراوتك هي الوحشيّة الوحيدة الأجمل من الرقّة.