حيفا ــ فراس خطيبالتاريّخ يعلم أنّ الحصار والجدران لا يجديان. كوبا لم تمت وغزة لم ترضخ. لأن المأساة التي تفرضها عقلية الجدران، تحمل مرادفاً لكسرها دائماً. فالجدران لا تبقي أثراً على الأرض، بمقدار ما تتركه في قلوب المحاصرين. عقلية الجدران التي تتبناها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، متجذرة منذ زمن، دعا إليها القيادي في الحركة الصهيونية، زئيف جابتنسكي، في مقالة كتبها منذ عام 1923. واليوم، على بعد عشرات السنين، نراها تتفشى ليس في الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، بل أيضاً في الداخل. فحين تمرّ على شارع الشاطئ الممتد بين مدينتي حيفا وتل أبيب، لا يستوقفك شيء في ذلك الأفق الفتوح، لكنّ الواقع يصدمك أحياناً حين تقترب من قرية صغيرة، اسمها جسر الزرقاء، مرمية على جانب الطريق السريع. أهلها فقراء، وثقافتهم متواضعة. يسكنون إلى جانب مدينة قيسارية. تلك المدينة الفلسطينية التاريخية، التي تحمل آثاراً من عهد الرومان، رائعة الجمال، وخصبة المعالم، تحولت منذ زمن إلى مرتعاً لأغنياء إسرائيل. بين جسر الزرقاء وقيسارية جدار ترابي، وظيفته، بحسب أغنياء قيسارية، منع شبان جسر الزرقاء من «سرقة الدراجات الهوائية» التابعة لهم. لكن من وراء هذه الحجّة، قصة وعقلية يجسّدها جدار فاصل بين ضحية مهمّشة، وأغنياء.

حين تطل من الكرمل لا ترى جداراً لكن تشعر بوجوده
الجدار الإسمنتي الذي عرفناه، والفولاذي الذي هو قيد البناء، يبدو في واقعه أقسى من صورته حتى لو حكت الصورة. جدار الفصل الذي يحيط بمدن فلسطينية مثل بيت لحم ورام الله، يفرض طوقاً يشبه طنجرة الضغط تولد فيها الخيبات: شباب بيت لحم يحلمون بزيارة القدس التي تبتعد عنهم «رمية حجر». ومئات الآلاف في غزة يحلمون بمشاهدة جانب آخر من السماء التي اعتادوا على اسمها. لكن كل شيء يبدو مغلقاً أكثر من أي وقت مضى، فالاحتلال والحصار لا يعنيان جيباً عسكرياً يطوّق أروقة المدينة فحسب، بل هو أيضاً احتلال الأفق وانسداده بوجه من يحلمون. تسير أنت، كما يسير كل شيء، وتسمع أنّ جداراً فولاذياً سيفصل بين غزّة ورفح. تحاول ألا تصدق. هل تفشّت عقلية الجدران في جنوب غزة، ألا يكفي شمالها؟ تبدأ مسيرة بحث جديدة عن الأمل. الجدران لا تعني فقط حجارة وإسمنتاً وأرضاً مفصولة. ثمة جدران تحتل القلوب. تضع حدوداً لا تراها العين المجردّة، لكنّها أقوى من الإسمنت والفولاذ وكل شيء. حين تنظر من الكرمل، وتطل على البحر، لا ترى جداراً، لكنّك تشعر بوجوده. وهذا أصعب الأنواع. تحلم، أنت الجالس في حيفا، بسهرة أدبية في بيروت. يرتد الحلم إليك بعد ارتطامه بحاجز يحرسه قرصان لا تراه.